مقال: هادم المصالح واللذات..

أورثنا الغوص في دروب الواقع السياسي وأزماته، والدنيا ومصالحها، قسوة في القلب لا يمكن إغفالها أو مداراة الآثار الناجمة عنها.

تبعا لذلك، اسودت الحياة في وجوهنا، وسيطرت انشغالاتنا الحياتية والوظيفية على تفكيرنا بل وعلى أحلامنا، وتقزمت حقائق الحياة والكون أمام ناظرينا، وبات مشهد الحياة لا يحتمل في أعيننا سوى المصالح بأشكالها، والوظائف بدرجاتها، وكلّ ما يُدرّ الدينار والدرهم والدولار.

استبد بالناس طول الأمل، فباتوا يبنون قصورا من الوهم، ويدشنون آمالا لا تنتهي في الحياة، وما دَرَوْا أن الموت هو الحقيقة الثابتة في هذه الحياة، وأنه أقرب إليهم من حبل الوريد.

بالأمس غيّب الموت أخا عزيزا على قلوبنا وأحد رجالات هذا الوطن وقياداته المخلصة المعطاءة، النائب المهندس جمال سكيك، صاحب الخلق الجم والتواضع العالي والأدب الرفيع والعطاء الفياض، الذي شكلت شخصيته نموذجا رائعا يعيد إنتاج سمت الداعية القدوة المعرض عن زخرف ومفاتن الحياة، والذي لا يعرف سوى الجهد المخلص والعمل الدؤوب.

أصبحنا لا نتذكر الموت إلا حين يختطف منا عزيزا، بل إن علاقتنا بالموت باتت علاقة بروتوكولية جامدة لا أكثر ولا أقل، تبدأ مع إقامة العزاء، وأداء واجبه، وتنطوي بنهايته.

مصيبة المصائب أن تجد الناس داخل سرادقات العزاء منغمسون في الدنيا ومصالحها، ولا حديث أو سيرة على ألسنتهم خارج نطاقها، وكأنّ سيرة الموت لم تعظهم أو تردعهم، وهم في ذلك يفسرون ضحكة الصحابي الجليل أبو الدرداء رحمه الله حين قال يوما:

"أضحكني: مُؤمل دنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فيه ولا يدري أرضى الله أم أسخطه".

مشهد الحياة بات مع واقع المصالح والملذات شديد التعقيد، وقلة قليلة ممن يطلون على مشهد الحياة يستشعرون عظم الخطر المتربص ويدركون الخيط الدقيق الفاصل بين الموت والحياة، فيما البقية الغالبة في لهوهم غارقون وفي غيّهم سادرون.

مشهد التلال الهامدة التي تحوي في أصداعها وبطونها الأعزاء والأحباء والأقارب والمعارف لم تعد تملك تأثيرها السحري في نفوس الكثيرين كما كانت تملك ذلك في عهود السابقين، ولم يعد لصفير الريح التي تهب على القبور المترامية وقع أو رهبة في أفئدة الناس، مُشيّعين كانوا أم زوارا، اللهم إلا من بقية باقية نفضت الدنيا من حساباتها، ونظرت إلى مصالح الحياة وبهرجها وزخارفها نظرة استخفاف واستصغار من يؤثر الباقي على الفاني، ومن يدرك أن ما عند الله هو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون.

كم نحتاج في هذه الآونة إلى مدرسة الموت كي نقتبس منها أدق العبر وأفضل العظات، وكي نتذاكر فيها معنى الحياة وسر الغاية والوجود، وكي نتعلم فيها من جديد كيف نتعالى على الدنيا ومباهجها ومصالحها، وكيف نعيد صياغة واقعنا وحاضرنا وسبل تعاملنا مع الله أولا، ومن ثم تعاملنا مع الناس في كافة شئون الحياة.

ما أضرّ بنا شيء أكثر من طول الأمل ونسيان الموت والآخرة، فقد أورثنا ذلك اتباع الهوى وغرس في نفوسنا حظا عميقا من الدنيا ومتاعها الفاني.

مدرسة الموت هي الركن الركين في خطتنا التربوية لإعداد وصناعة جيل النصر والتحرير، وتدشين الشخصية النموذجية النبيلة القادرة على البذل والعطاء والإخلاص، وبناء المجتمع النظيف القائم على القيم الفاضلة والمبادئ الناصعة والأخلاق العالية.

 

البث المباشر