قائمة الموقع

تهريب المخدرات.. حرب خفية ميدانها الأنفاق

2012-07-11T16:58:10+03:00
الانفاق بين غزة ومصر (أرشيف)
الرسالة نت - فادي الحسني

ما تزال معركة التصدي لتهريب المخدرات إلى قطاع غزة تمثل هاجسا بالنسبة لرجال مكافحة المخدرات الذين يخوضون صراعا ضاريا ضد المهربين والمروجين على حد سواء.

ويكشف يوميا عن القاء رجال الأمن القبض على مروجين، لكن السؤال: ما هو مصدر تلك الآفة؟ وما الذي يدفع بأشخاص لترويجها رغم أن عقوبتها تصل حد الإعدام؟ وهل من ثغرة في القانون أسهمت في إفلات المهربين من قبضة العقوبة؟

الباب مفتوح

ليس بالإمكان القول إن غزة مستنقع للمخدرات، ولكن يوجد فيها عدد من المروجين والمتاجرين والمتعاطين، مما يدع باب البحث والتحري مفتوحا على مصراعيه أمام عناصر المكافحة لملاحقة المجرمين ووضعهم تحت طائلة القانون.

هناك في أقصى جنوب القطاع يكثف رجال الأمن من وجودهم لتفتيش كل "شاردة وواردة" عبر الأنفاق الواقعة أسفل الحدود الفلسطينية-المصرية التي تعتبر إحدى منافذ تهريب "الآفة"، ولكنهم لا يملكون كلابا بوليسية مساعدة، فهل بوسعهم إحكام الخناق على المهربين؟.. الإجابة بالتأكيد "لا", لأن المهربين يبتكرون يوميا طرقا جديدة لأجل ادخال المخدرات إلى القطاع.

"الرسالة نت" تابعت أساليب التهريب، فوجدت أن آخرها كان استخدام أكياس الشيبس والدمى والأجهزة الكهربائية، اضافة إلى إقحام المخدرات في فرشات الإسفنج.

"

المكافحة: نعكف على إعداد وحدة كلاب بوليسية مدربة للمساعدة في مكافحة المخدرات المهربة

"

وأمام هذه المعضلة يقول نائب مدير مكافحة المخدرات في قطاع غزة سامح السلطان: "نعكف على إعداد وحدة (كلاب بوليسية مدربة) للمساعدة في مكافحة المخدرات المهربة إلى القطاع فضلا عن محاولة إدخال جهاز فحص إشعاعي لغاية تفتيش الواردات عبر الأنفاق".

وبعيدا عن الكلاب البوليسية فإن جهاز المكافحة بات يواجه معضلة جديدة في الآونة الأخيرة؛ فلم تعد الندوب والأسنان المسودة بالضرورة سمة بارزة يمكن بها التعرف على المتعاطي أو المروج كما كان رائجا في السابق.

الشاب مصطفى عبد الله صاحب الوجه الصبوح والأكف الناعمة الذي التقيناه في المحافظة الجنوبية من القطاع تاجر لعقار "الترامادول" رغم أن ملامحه البريئة لا توحي بذلك مطلقا.

ونحن هنا لسنا في صدد الوقوف على أسباب تعاطي الشاب هذه الآفة بقدر ما نبحث عن الجهات التي تمده بالعقار من أجل تهريبه إلى غزة، لكن الأمر لم يكن سهلا حيث كان "عبد الله" شديد الحرص على عدم الكشف عن هوية تلك الجهات خاصة أن أشخاصا كهؤلاء لا يفتحون قلوبهم لأحد ولا يمنحون الثقة إلا لمن أرادوا.

واكتفى الشاب عبد الله الذي يعمل حارسا لأحد الأنفاق بالقول: "هم أشخاص مقيمون في شمال سيناء (أي كبار تجار المخدرات)، وأتواصل معهم عندما يغادر مالك النفق المكان، فأذهب إليهم لجلب كميات من الترامادول وحبوب مخدرة أخرى وفروش حشيش".

ويكمل الشاب صاحب العشرين ربيعا: "هذه تجارة مربحة لا خسارة فيها (...) هم يعطوني المخدرات ولا يطلبون ثمنها إلا بعدما أبيعها داخل القطاع".

محفزات ..

ثمة حوافز يقدمها أصحاب تلك الآفة للتجار المحليين -كما يقول عبد الله- أبرزها أنهم يتعهدون لهم بعدم المطالبة بثمن كميات المخدرات المهربة إذا ألقي القبض عليهم، بل ويعوضونهم عن أيام السجن إذا أوقفوا فضلا عن تحملهم أي أتعاب للمحامي إضافة إلى دفع الكفالة المالية المستحقة للجهات الرسمية نيابة عنهم.

وبعيدا عما إذا كان الشاب عبد الله ضحية أو لا فإن مجمل الحوافز المقدمة لتاجر المخدرات المحلي قد لا تدع له مجالا للإعراض عنها ولاسيما أن الأشخاص المتعاطين لهذه الآفة منبوذون أخلاقيا ودينيا.

وفي هذا السياق يقول السلطان: "معظم المروجين ممن ألقي القبض عليهم هم من أصحاب الدخل البسيط وغير ملتزمين دينيا وأخلاقيا، فيجري استغلالهم والتغرير بهم بدافع توفير قوت أسرهم الفقيرة"، واستدرك: "هناك أشخاص آخرون يتاجرون بهذه الآفة سعيا وراء تحقيق الربح السريع وزيادة أموالهم".

وقد سجلت التحقيقات التي اطلعت عليها "الرسالة نت" مع المتهم محمود خليل الذي أوقف سابقا على خلفية الترويج اعترافه بتكفل (م.ط) -وهو تاجر يقطن في مصر- بدفع الكفالة المالية المستحقة على كاهل "خليل" مقابل الإفراج عنه فيما سجلت أيضا تنازل التاجر (ج، ش) عن ثمن المخدرات التي كلف المتهم سمير أحمد -من سكان غزة- ببيعها بعدما ألقي القبض على الأخير.

وعلى ذكر دفع المتهميْن للكفالة المالية مقابل الإفراج عنهما فإن هذه الآلية القانونية المتبعة في كثير من قضايا المخدرات تسبب إحباط بالنسبة لعناصر جهاز مكافحة المخدرات الذين ستكون حالهم أقرب للمثل الشعبي (كأنك يا أبو زيد ما غزيت) بعدما يرون المجرم أصبح حرا طليقا بعد أيام من إلقاء القبض عليه.

ويؤكد نائب المدير العام لمكافحة المخدرات أن القانون المتعلق بهذه الجريمة يشوبه كثير من الثغرات التي من أبرزها: دفع الكفالات مقابل الحصول على إذن الإفراج.

تجدر الإشارة إلى أن القضاء في غزة يعمل وفق أحكام القانون المصري المتعلق بجريمة المخدرات، ولكنه ما زال يعتبر "الأترمال" عقارا طبيا محظورا فيما يخالف القانون المصري الجديد المتاجر به على اعتبار أنه مصنف كواحد من أنواع المخدرات.

واستطرد السلطان: "الكفالة لم تعد رادعة بالنسبة للمتاجرين في المخدرات (...) الآلية المتبعة باتت تصيبنا بالإحباط، فبعد أن يكون البحث عن المجرمين قد أنهكنا ثم ألقينا القبض عليهم يتمكنون بكل يسر وسهولة من دفع الكفالة ومغادرة السجن!".

حيرة

وتصطدم جهود المكافحة والملاحقة الأمنية بالإجراءات القانونية المطبقة. ويرجع المستشار القانوني في المجلس التشريعي نافذ المدهون المشكلة إلى سببين، "الأول متعلق بعدم توفر مختبر جنائي لعمل الفحوص والتأكد من نوعية المواد المهربة"، قائلا: "عدم وجود مختبر يضع القاضي في حيرة من أمره وبالنتيجة يجري القبول بالكفالة مقابل الإفراج عن المتهم".

ويرى المدهون أن السبب الثاني وراء الاعتماد على مبدأ دفع الكفالة مقابل الإفراج عن المتهمين في قضايا المخدرات هو الشلل الذي يصيب قانون الإثبات؛ "بمعنى أن القانون كان يشدد على ضرورة أن تكون المادة المخدرة في حيازة المتهم حتى يستطيع القاضي إصدار حكم بحقه، وهذا أيضا من الأمور التي تثير حيرة القضاة"، كما قال.

"

المدهون: لابد من إصدار قانون محلي للمخدرات بدلا من القانون المصري المعمول به في غزة

"

على ضوء ذلك، أوضح المستشار القانوني أن "القانون الحالي لا يلبي الحاجة"، مطالبا بضرورة إصدار قانون محلي للمخدرات بدلا من القانون المصري المعمول به في غزة، "ويتضمن جداول ويشمل كل المواد المخدرة والمحظورة".

ولا يخفى على جهاز المكافحة عبث أيادي الاحتلال لإفساد المجتمع وإغراقه بالمخدرات خصوصا أن رجال الأمن تمكنوا من اكتشاف عدد من تجار المخدرات الذين عبروا الحدود الشمالية المتاخمة للأراضي المحتلة عام 1948 متخفين، من أجل جلب كميات المخدرات.

وهناك على الأطراف المتاخمة للاحتلال تبدو عمليات الملاحقة أكثر تعقيدا، إذ يعتمد المهربون (الإسرائيليون) في تعاملهم مع التجار المحليين على أسلوب الاستلام والتسليم عبر النقاط "الميتة" التي لا يمكن لعناصر المكافحة دخولها بحكم الطوق الأمني للمنطقة إضافة إلى استخدامهم شرائح اتصال للتواصل مع التجار لمرة واحدة وذلك حتى يصعب تقصي أثرهم.

"المكافحة" توجه للاحتلال أصابع الاتهام في محاولة استغلال حاجة الناس الماسة للمال في ظل الوضع الاقتصادي المتردي الناتج عن الحصار من أجل تهريب المخدرات إلى القطاع أيضا عبر الأنفاق الجنوبية.

وكشفت مصادر أمنية عن استغلال الاحتلال للمرضى الفلسطينيين الذين يتلقون العلاج في المستشفيات (الإسرائيلية) عبر طلب تمرير هدايا وألعاب بلاستيكية لأشخاص يقطنون القطاع تحتوي على مواد مخدرة.

وقالت المصادر: "جرى مصادرة عديد من الهدايا والعلب التي تحتوي على حبوب مخدرة "كالسعادة" وغيرها كانت بحوزة المرضى العائدين إلى غزة عبر معبر بيت حانون(إيرز)".

أعوان الاحتلال

"الاحتلال ليس وحده من يقف خلف جريمة تهريب المخدرات".. هكذا قالت مصادر في جهاز المكافحة لـ"الرسالة نت"، فقد اتهمت أيضا من وصفتهم بـ"أعوان الاحتلال" بإغراق القطاع بعقار "الترامادول".

ولا يحتمل مصطلح "أعوان الاحتلال" أكثر من تفسير، فتقول المصادر ذاتها إن هناك أشخاصا هربوا من قطاع غزة إبان أحداث الحسم عام 2007، "وآخرون مشبوهون أمنيا وأخلاقيا يعملون على دعم عقار "الترامادول" ويساعدون في ترويجه داخل غزة، وهذا مثبت بالأدلة".

وبحكم العلاقات الخاصة فبإمكان متعاطي العقار الطبي المهرب لغرض "الكيف" التوجه إلى أصدقائه من الصيادلة المخالفين لطلب "الترامادول" دون الحاجة لعرض روشتة الطبيب.

السلطان شدد في هذا السياق على ضرورة التفرقة بين عقار "الترامادول" الطبي المسموح به من وزارة الصحة وعقار آخر محظور يحمل الاسم نفسه، "لكن مواصفاته مختلفة ومهرب من الهند وألمانيا".

وأمام هذا التحدي الخطير تجد المكافحة نفسها بحاجة إلى وضع الصيدليات تحت أعين عناصرها ومندوبيها بالتنسيق مع المباحث الطبية للتقصي حول ما إذا كانت تلك الصيدليات تبيع هذا العقار بطريقة قانونية أم لا.

وكشف السلطان عن إغلاق عدد من الصيدليات التي استغل القائمون عليها وضعهم القانوني لغرض الترويج للعقار المحظور.

وكشفت في الوقت نفسه مصادر مطلعة لـ"الرسالة" عن استغلال أحد الصيادلة الذي يقطن في شمال القطاع طفلا يبلغ من العمر سبعة عشر عاما لغرض توصيل كميات الحبوب المخدرة إلى الزبائن المتعاطين، مؤكدة أن جهاز مكافحة المخدرات ألقى القبض عليه، "واستطاع استصدار قرار بإغلاق الصيدلية".

البحر والمكافحة

وتغزو المخدرات قطاع غزة عبر أكثر من منفذ، والبحر أحد هذه المنافذ، وفي هذه الحالة تصبح عمليات الصيد البحرية أيضا تحت المراقبة لأنه من المحتمل أن ينقلب المثل العربي الشهير ليصبح: "تأتي السفن بما لا تشتهي المكافحة!".

غير أن السلطان اعترف بضعف إمكانات جهاز المكافحة في متابعة عمليات التهريب التي تجري في عرض البحر، وذلك لدواع أمنية وأخرى لوجستية لها علاقة بعدم توفر القوارب الأمنية لملاحقة المتاجرين.

وأكد أنه لا يمكن الاعتماد على الشرطة البحرية في متابعة هذا الملف، "وذلك لجهلها بآليات التهريب التي يتبعها تجار المخدرات"، قائلا: "هي غير متخصصة (أي الشرطة البحرية) لذلك يصعب عليها الكشف عن عمليات التهريب".

وأفصح السلطان عن أن المهربين يلجؤون لاستخدام "الفلين" لتهريب البانجو، "فيما يضعون الحشيش في قاع أحواض السمك البلاستيكية".

ويتضح عبر التحقيق أن عمليات التهريب تجري بصورة ممنهجة، فيعمل خلالها "رجالات المافيا" على تحقيق المكاسب المادية بالاعتماد على "الضرب تحت الحزام" من أجل خلخلة المجتمع وتفكيك قواعده الأسرية المحافظة.

ويقرأ عميد كلية فلسطين للعلوم الأمنية هشام المغاري في ممارسات الاحتلال واحدة من أنواع إفساد المجتمع عبر إدخال آفة المخدرات إليه وزرعها في أوساط الشباب.

"

المغاري: تمثل المخدرات مدخلا رئيسيا للتخابر لمصلحة الاحتلال

"

وقال المغاري: "تمثل المخدرات مدخلا رئيسيا للتخابر لمصلحة الاحتلال مع العلم أن العدو لا يرغب بتحويل المجتمع إلى مجتمع عميل بقدر ما يبحث عن إفساد المجتمع وإسقاط ما يمكن إسقاطه".

واعتبر المغاري في السياق نفسه أن الاحتلال يتخذ من هذه الآفة أيضا مصدرا استثماريا، مؤكدا أن تدمير القيم الإنسانية وإفساد الشباب الفلسطيني هي الغاية الأسمى لدى (إسرائيل).

رسائل تهديد

وما يدعم فرضية أن المهربين المتورطين في جريمة تهريب المخدرات هم "مافيا" بما تحمله الكلمة من معنى رسائل التهديد التي يوجهونها بين حين وآخر إلى جهاز المكافحة في غزة، بل يتعدى الأمر إلى مطالبتهم بضرورة الإفراج عن أسماء بعينها وإلا فإنهم سيضطرون لتعطيل مرور الحاجات الاساسية الواردة عبر الأنفاق إلى غزة.

وردا على تلك التهديدات قال السلطان: "هذا الأمر لن يثنينا عن مواصلة عملنا، فرسالتنا سامية وسنؤديها بالصورة المطلوبة".

أستاذ الشريعة الاسلامية ماهر السوسي اعتبر من ناحيته أن تعاطي العقاقير المخدرة أو المتاجرة بها هو حرام شرعا، "وذلك انطلاقا من القاعدة الإسلامية العامة: (لا ضرر ولا ضرار)".

"

السوسي: تعاطي العقاقير المخدرة أو المتاجرة بها حرام شرعا انطلاقا من قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)

"

وأوضح السوسي أن استخدام العقاقير المخدرة أمر مخالف للإسلام، "لأنها تغيب العقل".

ومن الأهمية بمكان تأكيد أن غزة ليست مرتعا لتجارة المخدرات، وأن نسبة المتعاطين فيها تعتبر الأقل في العالم عموما والوسط العربي بوجه خاص، وذلك وفق تأكيدات جهاز مكافحة المخدرات.

ووفق إحصاءات رسمية فإن عدد قضايا المخدرات خلال العام المنصرم 2011 بلغت حوالي"2280" قضية موزعة على جميع محافظات قطاع غزة، ويشتمل العدد على جميع القضايا: "تعاطي، وترويج، واتجار".

بدوره أوصى عميد المعهد العالي للقضاء إسماعيل جبر بضرورة التشديد في جرائم المخدرات، "فقد أجاز القانون المصري المطبق في غزة حكم الإعدام على مروجي المخدرات".

وأشار جبر إلى ضرورة عمل المجلس التشريعي لتعديل -أو إصدار- قانون عصري يتناسب مع الواقع، "وتشدد فيه العقوبة خاصة في التعامل مع قضية العقاقير الطبية التي أصبح يستخدم بعضها كمخدرات".

وختاما نقول مستندين إلى ما قاله الشاعر أحمد شوقي: (إنْمَا الأُمَمُ الاخْلَاقُ مَا بَقيتْ فإنْ هُمُ ذهبتْ أخْلاقُهُمْ ذهبُوا)، لذا فلا بد من أن يكثف المجتمع بمؤسساته المختلفة من حملات التوعية انطلاقا من النوادي والمدارس والجامعات حتى منابر المساجد والساحات العامة لنضع حدا لجريمة من أخطر الجرائم فتكا بالمجتمعات، وإلا ستظل الحرب الخفية مستمرة ويتوالى سقوط الضحايا.

اخبار ذات صلة