إذا وددت بالانتقال من قطاع غزة إلى مصر وقل عمرك عن 40 عاما فأنت بحاجة إلى (تنسيق أمني).. الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء بغزة هو أيضا بحاجة إلى موافقة أمنية.. ملف المصالحة الفلسطينية ورغم أنه سياسي فترعاه الجهات الأمنية.
باختصار: غزة بتعقيداتها السياسية وأزماتها الحياة فيها تنظر لها (القاهرة) على أنها ملف أمني خالص لا يمكنها التعامل معه إلا عبر طاولة جهاز المخابرات.
وليس بالإمكان إنكار التعاطف الشعبي المصري اتجاه القضية الفلسطينية وحرصه على أن تبلغ مستواها المطلوب وترتقي لتصبح على قائمة الاهتمامات العربية والإسلامية، ولكن في المقابل كان المستوى السياسي البائد (عهد حسني مبارك) يتعاطى بحكم تحالفه مع (إسرائيل) والولايات المتحدة مع القضية -تحديدا مع قطاع غزة- على أنها تشكل خطرا على أمنه القومي لذلك ألقى بهذا الملف في حجر جهاز المخابرات العامة.
إغلاق الأبواب
وبعد صعود حركة حماس إلى الحكم بموجب انتخابات 2006 التي حظيت فيها حماس بالأغلبية في البرلمان حاولت المخابرات المصرية إيصاد الأبواب في وجه الحركة انطلاقا من تعليمات النظام السابق المناوئ للفكر الإسلامي.
وصحيح أن جهاز المخابرات المصرية -برئاسة الوزير السابق عمر سليمان- نجح في رعاية ملف صفقة تبادل الأسرى -بعد سنوات من التعثر والفشل- التي أبرمت بين حركة حماس والاحتلال الصهيوني وتم بموجبها الإفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال مقابل إطلاق سراح الجندي "جلعاد شاليط"، وكذلك احتضان اجتماعات المصالحة التاريخية التي ضمت الفصائل الفلسطينية والاتفاق على آلية لتنفيذ اتفاق المصالحة وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية.
"غزة بتعقيداتها السياسية وأزماتها الحياة فيها تنظر لها (القاهرة) على أنها ملف أمني خالص لا يمكنها التعامل معه إلا عبر طاولة جهاز المخابرات
"
غير أن اللافت أن التحركات المصرية في هذا الشأن ظلت تجري عن طريق جهاز المخابرات العامة الذي احتكر ملف التعامل مع حركة حماس طوال عهد "مبارك" بعيدا عن وزارة الخارجية التي يفترض أنها الجهاز الرئيسي في إدارة علاقات الدولة مع الجهات الخارجية.
هذا الموقف ظل محل انتقاد حركة حماس التي كانت دوما تصطدم بالاشتراطات الأمنية، وخرجت مرارا عن صمتها معبرة عن امتعاضها من التعامل مع القطاع عبر بوابة المخابرات.
وأخبر مسؤولون في الحركة -رفضوا الكشف عن أسمائهم- عن ممارسة الجهات المصرية الراعية للمصالحة (المخابرات) الضغط عليهم في أوقات سابقة بحكم انحياز النظام المخلوع للسلطة الفلسطينية التي يترأسها محمود عباس.
ومع تجدد أزمة الكهرباء الطاحنة في قطاع غزة بين فينة وأخرى يبدو جليا الدور الأمني المصري الذي تمارسه القاهرة اتجاه القطاع ابتغاء مرضاة الاحتلال.
وسبق أن اتهمت سلطة الطاقة في قطاع غزة جهات مصرية و(إسرائيل) بـ"تبادل للأدوار لخنق الشعب الفلسطيني واستمرار الحصار على قطاع غزة"، وذلك بعد تأجيل دخول الوقود القطري إلى قطاع غزة قبل نحو شهرين ونصف.
وقالت سلطة الطاقة في بيان صحافي إنها تستغرب التأخير المتكرر لإدخال شحنة الوقود القطري إلى القطاع، معتبرة ذلك تأكيدًا جديدًا على المماطلة المتعمدة من طرف السلطات المصرية، "وكذلك التعنت (الإسرائيلي) الصريح لمعاقبة الشعب الفلسطيني".
لا تملك التغيير
لم تملك في واقع الأمر الحكومة الفلسطينية في غزة أو حركة حماس أن تغير شيئا في المعادلة المصرية، فما لم تغيره ثورة 25 يناير التي قلبت أركان الحكم ليس بالإمكان تغييره بالشجب والاستنكار الفلسطيني.
"بعد صعود حركة حماس إلى الحكم بموجب انتخابات 2006 التي حظيت فيها حماس بالأغلبية في البرلمان حاولت المخابرات المصرية إيصاد الأبواب في وجه الحركة
"
وأمام هذا التحدي الذي يواجه القطاع أوصت أصوات مصرية بضرورة تغيير آلية التعامل مع القضية الفلسطينية عموما وقطاع غزة على وجه الخصوص انطلاقا من تغيير النظام الذي أسقطته الثورة، مشددة على ضرورة أن يعود ملف التعامل مع حماس إلى مكانه الطبيعي، "وهو وزارة الخارجية المصرية".
واعتبر القيادي بجماعة الإخوان المسلمون جمال حشمت أن هذا وضع غير صائب بعد الثورة، مؤكدا أن الملفات يجب أن تعود لأصحابها، وأن التعامل مع غزة يجب أن يكون عبر الوسائل الطبيعية، "وهي القنوات الدبلوماسية وليست الجهات الأمنية".
واعتبر حشمت أن استمرار هيمنة المخابرات على ملف التعامل مع حماس يمثل نتيجة متوقعة في ظل استمرار المجلس العسكري على قمة السلطة في مصر، واصفا هذا المجلس بأنه امتداد طبيعي للرئيس المخلوع مبارك.
وإذا جئنا على ذكر الرئيس المخلوع فإن المواطنين الفلسطينيين قد ذاقوا في عهده صنوف الذل والإهانة، وبخاصة المسافرون منهم.
وأخضعت الجهات الأمنية المصرية المسافرين الفلسطينيين العائدين إلى غزة للترحيل، فمكثوا في صالات الانتظار أياما وليالي وسط تجاهل الجهات الرسمية الفلسطينية والمصرية.
مصادر فلسطينية بارزة أوضحت لـ"الرسالة نت " أن الآلية المتبعة مع العائدين إلى غزة -ممن تقل أعمارهم عن 40 عاما- القاضية بترحيلهم جاءت بعد توافق تم بين السفارة الفلسطينية في القاهرة وجهاز المخابرات المصرية.
وأضافت المصادر: "هذا الأسلوب يدل على مدى تواطؤ السلطة الفلسطينية مع المخابرات المصرية من أجل إذلال أهالي غزة وإهانتهم والتعامل معهم على أنهم (خطر)".
مصلحة مصر!
الخبير العسكري المصري اللواء سامح سيف اليزل دافع من ناحيته عن موقف بلاده، معتبرا أن التعامل المصري مع ملف حماس ليس في يد المخابرات وحدها، "وإنما تتعاون فيه كثير من الأجهزة شأنه في ذلك شأن الملفات الأخرى، ولكن المخابرات تظهر في الصورة أكثر بفعل توليها كثيرا من الترتيبات عند التواصل بين الجانبين"، كما قال.
ورفض اليزل وهو مدير مركز الجمهورية للدراسات الأمنية القول إن إسناد ملف التعامل مع حماس للمخابرات المصرية يمثل نوعا من الضغط على حماس وغزة، قائلا إن الأمر يتعلق بسيادة الدولة، ومعللا: "من حق مصر أن تسند متابعة الملفات للجهات التي تراها ومن بينها المخابرات، فهذا يحدث في تعاملات مع دول وجهات أخرى".
وبين أنه لا يعتقد أن هذا الأمر كان مرتبطا بشخص الرئيس السابق مبارك، ومع ذلك فإنه لم يستبعد أن يتغير هذا الأمر مستقبلا، موضحا: "هذا مرهون بأن ترى الحكومة المقبلة أن هذا التغيير يصب في مصلحة مصر".
وعلى ما يبدو فإن الأمل المعلق على الأشقاء المصريين بإنهاء حصار غزة بعد نجاح أحداث الثورة المصرية يناير 2011 وانتخاب مرشح جماعة الإخوان محمد مرسي رئيسا لمصر سيتبدد طالما ظلت غزة ملفا أمنيا معلقا على رف جهاز المخابرات المصرية.