قائمة الموقع

بين الجدار والانهيار .. لقمة عيش مغموسة بالرمال

2010-01-08T18:13:00+02:00
الزميل محمد أبو قمر داخل النفق

شهود : الأمن المصري يواصل نقل معدات الجدار الفولاذي للحدود

عمال : تشديد مصري على دخول البضائع

غزة- محمد أبو قمر

فوق تجمع للرمال لا يبعد سوى أمتار قليلة عن الشريط الحدودي يجلس أبو أحمد الذي يلف الكوفية حول رقبته يرتشف فنجان قهوته في استراحة قصيرة تحت أشعة الشمس المعتدلة بعد يوم عمل شاق في باطن الأرض.

كانت نظرات عينيه الثاقبة تراقب حركة الآليات المصرية على الطرف الآخر من الحدود التي تؤسس للجدار الفولاذي لشل عمل الأنفاق، وذهنه مشغول بالقادم المجهول.

الجولة على الشريط الحدودي تكشف آثار وتداعيات الإجراءات المصرية ، بينما استمعت "الرسالة.نت" لشهادات حول مقاومة الجدار على الطرف الغزي.

إجراءات قاتلة

صوت الآليات ومولدات الكهرباء فيما بات معروفا بـ "مخيم الأنفاق" الممتد على الشريط الحدودي جنوب غزة يسيطر على المنطقة التي دبت فيها حركة العمال ، حيث تتقارب فتحات الأنفاق المغطاة بالنايلون بما يشبه الدفيئات الزراعية.

وبحسب شهادة العامل الثلاثيني أبو أحمد فقد خفت حدة العمل على الجانب المصري في الفترة الأخيرة ، مرجحا أن يكون قد توقف بناء الجدار مؤقتا بعد المناوشات الأخيرة التي حدثت في المنطقة وإطلاق النار على الحدود .

لكن "الرسالة.نت" لاحظت وجود رافعتين بأماكن متفرقة على طول الحدود ، إلا أن العامل قال أنها عبارة عن " قادوح" بدأ العمل به في الجانب المصري قبل عدة أشهر ، حيث تحفر في باطن الأرض بقطر صغير يتخلله سلك حديدي، يعتقد العمال أنه يستشعر ما يدور عن بعد ، وفي حال ثبت أنه نفق تقدم تلك الرافعة على توسيع رقعة الحفرة وتملأها بالتراب مما يعمل على قطع أواصر النفق.

وبدأ عمال الأنفاق يتعاملون مع تلك الأسلاك التي يزرعها "القادوح" بحذر ولا يمسونها كي لا تعطي إشارة لدى الأمن المصري بأن هناك نفق.

واتفقت شهادات العاملين في الأنفاق على تراجع العمل في الجدار الفولاذي بعدما بدأ العمل فيه سابقا بقوة ، حيث يقول عامل أطلق على نفسه "أبو البراء" "في الفترة الماضية أبلغنا الأمين المصري المكلف بجلب شحنات البضائع من الداخل بأن شاحنات ضخمة محملة بألواح حديدية وصلت إلى الحدود ".

وكما يصف الأمن تلك الألواح فإنها عبارة عن جزأين متقابلين يفصل بينهما مساحة.

ويرجح العاملون أن تكون تلك المساحة مخصصة لضخ مياه البحر كما تحدثت وسائل الإعلام.

وكان الإعلام الإسرائيلي أول من كشف عن نية الأمن المصري تشييد جدار فولاذي بدعم أمريكي على طول الحدود مع غزة بهدف إغلاق الأنفاق التي تعد المتنفس الوحيد للغزيين في ظل إغلاق المعابر التي يتحكم بها الاحتلال، وقد توالت بعدها الأصوات المنددة والتحذيرات الكارثية من آثار الجدار في حال الانتهاء من تدشينه.

تضييق الخناق

وتيرة سير العمل داخل الأنفاق تدلل كما يؤكد العاملون بها على أن عملهم لم يتأثر حتى اللحظة بالجدار الفولاذي ، لكنهم لم يخفوا تخوفهم مما ستؤول إليه الأوضاع في حال اكتمل بناؤه مستقبلا.

ففي أحد الأنفاق التي اصطحب العامل "أبو البراء" "الرسالة" إليها كان العاملون منهمكين في إخراج شحنة من الاسمنت .

على فتحة النفق الذي يصل عمقه ثلاثين مترا يقف اثنان من العمال لاستلام الاسمنت من الرافعة التي تنتشله من باطن الأرض وركنه جانبا .

في غمرة ذلك العمل الشاق الذي يشارك فيه ما يزيد عن عشرة أشخاص موزعين على فتحة النفق بالجانب المصري ومسافات متفرقة داخل النفق ، لم تغب روح الدعابة والابتسامة التي تعتلي وجوه العاملين الذين لم يكترثوا بما يدور في الجهة التي تقابلهم في الجانب المصري من بناء للجدار .

وبكلمات ساخرة يقول العامل أبو أحمد:  " إذا أغلقوا الأنفاق فمن أين نأتي "بالجالاكسي".

ولعل أضواء الزينة الملونة تبدو ملفتة في عين ذلك النفق الذي تلفه الأخشاب وبالكاد يتمكن الشخص من رؤية نهاية عمقه.

ويضيف "أبو البراء": نجلب البضائع من الطرف المصري بناء على طلب التجار، مشيرا إلى أن الطلب متزايد هذه الأيام على الاسمنت.

ويشير العمال أن القوات المصرية تشدد الرقابة على بعض السلع حيث منعت التجار المتواجدين في العريش من جلب اسطوانات الغاز من المحافظات المصرية الأخرى إلا بكميات محدودة لاستخدام الأهالي هناك ، كما منعت وصول مولدات الكهرباء إلى المنطقة مما زاد من صعوبة تهريبها إلا بطرق التفافية.

ويبدو أن القوات المصرية تحاول تضييق الخناق على البضائع بشكل تدريجي ، بهدف السيطرة على البضائع المهربة، كما يعتقد العاملون هناك.

مغامرة

في مغامرة خاضتها "الرسالة.نت" في باطن الأرض , حيث بدا الأمر مختلفا عن ظهرها، فالخوف يدب في قلب كل يحاول النزول الى عمق النفق للمرة الأولى على خلاف العاملين الذين اعتادوا على مهنة الموت.

وتزداد الأفكار والتساؤلات في ذهن المغامر الجديد أثناء الهبوط الى عمق النفق لاسيما أنه بدون "تخشيب" مما يزيد التخوف من إمكانية انهياره في أية لحظة.

أثناء الهبوط المحفوف بالمخاطر تبدأ ظلمة النفق تشتد شيئا فشيئا رغم بعض الإنارة البسيطة ، ويضيق التنفس في الأعماق.

ولا يمكن لابتسامات العاملين إخفاء قساوة تفاصيل الحياة اليومية في الداخل حيث يضطرون لقضاء حاجتهم والتبول في زجاجات فارغة وذلك نظرا لطول الوقت الذي يستغرقونه للخروج من النفق .

ويضطر العمال السير منحني القامة داخل النفق وفي بعض المسافات الضيقة يضطرون الى الحبو على أيديهم.

ويسترجع العامل "أبو محمد" المشاهد الخطرة التي عايشوها في باطن الأرض أثناء قصف طائرات الاحتلال للشريط الحدودي خلال الفترة الماضية ، حيث كانوا في بعض الأحيان يعرفون مسبقا أن الغارة باتت وشيكة عندما تصلهم معلومات عن تراجع حرس الحدود المصري للخلف ورفع رايات حمراء حينها يسارع العاملون لإخلاء المنطقة.

ويعد القصف الفجائي من قبل الطائرات الأكثر خطرا إلا أن العاملين في داخل النفق في تلك الأثناء يلجئون للهروب تجاه الأراضي المصرية لتفادي الانهيارات.

من الجدير بالذكر أن طائرات الاحتلال انتهجت سياسة قصف الشريط الحدودي خلال الحرب على غزة والأيام التي عقبتها ، كما أنه لم تتوقف محاولات إغلاق الأنفاق حيث دأبت القوات المصرية بمساعدة أمريكية على مدار الفترة الماضية عبر استخدام غاز قاتل ، وخراطيم المياه ، وارتجاج الأرض .

هموم مكبوتة

في داخل النفق يجلس أبو محمد على ركبتيه ينتظر وصول شحنة أحذية بعدما وصلته إشارة عبر أجهزة الاتصال السلكية من العمال الذين يتخذون نقاطا متقدمة بتحركها من الطرف المصري حيث يستغرق استخراجها ما بين ربع الى نصف ساعة.

في لحظات الانتظار أخذ أبو محمد يسرد معاناتهم اليومية حيث اشتكى من تضاؤل الأجور ، ويقول " مع بداية ظهور الأنفاق لم أكن أوافق على دخول النفق بأقل من مائتي دولار يوميا، أما الآن مع تزايد الأنفاق وكثرة العاملين انخفضت الأجور وبالكاد تصل لثمانين شيقلا يوميا".

ورغم أن المبلغ مرتفع من وجهة نظر العاطلين عن العمل إلا أنه يساوي الحياة ثمنا لجنيه كما يضيف العامل.

ويتخذ العمال من باطن الأرض مسجدا لهم لأداء الصلوات ، فيما يقتنصون فترة انقطاع الكهرباء للاستراحة والنوم في باطن الأرض ، فبحسب أبو محمد " نغرق في النوم بعيدا عن الضوضاء".

وما هي إلا لحظات حتى قطع العامل حديثه وانتفض لمراقبة حركة الشاحنة التي شارفت على الوصول ، وما أن أمسك بالأكياس المعبأة بالأحذية حتى أخرج غلاف حذاء كتب عليه" صنع في فلسطين- الخليل" ، ويتابع " صناعة بلدنا مش قادرين نحصل عليها إلا عبر الأنفاق" .

ولاحظت "الرسالة.نت" أن أعمار العمال تتراوح ما بين ثمانية عشر عاما الى الثلاثين ، وأغلبهم دون الثالثة والعشرين.

ويشير العامل الى أن مالكي النفق يتقاضون الأجور من التجار بناء على عدد "الشياطات" وهي القطع البلاستيكية المستخدمة في نقل البضائع ، فيما يتقاضون أجور نقل الاسمنت بالطن.

وترجح المعلومات المتوفرة عدد العمال الذين يتخذون من العمل بالأنفاق مهنة لهم بخمسة عشر ألف شخص.

وتتعدد البضائع التي تصل غزة عبر الأنفاق حتى تمكنوا مؤخرا من إدخال الرخام والبلاط والمزايكو.

في رحلة الخروج من عتمة النفق يبدو الشعور متناقضا للحظات الدخول حيث يبدأ النور بشق طريقه للنفق وتزداد نسمات الهواء .

تهريب السيارات

في "مخيم الأنفاق" تنشط الحركة المكوكية وتظهر الدراجات النارية بشكل كثيف حيث يستخدمونها كوسيلة للتنقل في تلك المنطقة الوعرة ، وقد لاحظت"الرسالة" شاحنات كبيرة لنقل الوقود.

وتفيد شهادات العمال بأنهم يضخوا الوقود عبر النفق في ساعات الليل فقط ويجمعونه في خزانات كبيرة ، على أن يتم نقلها للشاحنات في ساعات النهار ومن ثم الى محطات الوقود.

ووفرت الأنفاق فرص عمل أخرى فقد جاب شاب على عربة كارو المنطقة وهو يردد " اللي عندو شياطات خربانة للبيع " ، حيث يستفيد منها في إعادة تصنيعها من جديد.

وتقدر تقارير اقتصادية حركة التداول في الأنفاق بحوالي 300 مليون دولار سنويا ، فيما تبلغ قيمة الاستثمارات حوالي 500 مليون دولار.

ولاحظت "الرسالة.نت" وجود نفق كبير خاص بتهريب السيارات تلتف حوله تكتلات رملية ، إلا أنها لم تتمكن من الوصول إليه نظرا لمنع القائمين عليه أي شخص من الاقتراب.

وبحسب المعلومات التي حصلت عليها "الرسالة" فان السيارات المهربة تصل الى غزة عبر النفق يقودها سائق دون تجزئة كما في السابق.

وقد تمكن المهربون من إدخال عشرات السيارات بأنواعها المختلفة ، وقد لوحظ عدد منها في شوارع غزة.

وتلتهب أسعار تلك السيارات الحديثة بأضعاف عن تكلفتها، وذلك في الوقت الذي تفتقر فيه غزة للسيارات الحديثة نظرا لمنع قوات الاحتلال توريدها منذ مطلع العام 2006 .

وتشير المعلومات الخاصة أن هناك نفقين ذو مساحات واسعة مخصصة لتهريب السيارات.

ورغم ما تدخله الأنفاق إلى غزة المحاصرة وتسد احتياجاتها إلا أن تحولها إلى مقابر للعاملين فيها يعد الأخطر حيث كشفت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" في تقريرها عن ديسمبر 2009 أن قرابة نصف المواطنين المتوفين الشهر الماضي توفوا بسبب الأنفاق.

وما بين الانهيار والجدار تبقى مصير الأنفاق مجهولة في انتظار ما ستفضي إليه الإجراءات المصرية على الشريط الحدودي .          

اخبار ذات صلة