"جسد واحد".. هكذا يصف المؤرخون العلاقات بين مصر وقطاع غزة عبر التاريخ، فقد كانت تزداد قوة وترابطا مع زيادة العلاقات الاجتماعية والمصاهرة بين البلدين بفعل القرب الجغرافي والديانة المشتركة والعادات والتقاليد المتقاربة.
القطاع الذي خضع لحكم الإدارة المصرية بعد النكبة ازداد قربه من مصر وشعبها بعد أن فتحت الحدود, فقد انخرط الغزيون في المجتمع المصري واختلطوا به وتفاعلوا اجتماعيا ومهنيا وثقافيا معه.
"القطاع الذي خضع لحكم الإدارة المصرية بعد النكبة ازداد قربه من مصر وشعبها
"
ومع مرور الوقت ولسبب الزواج المختلط بات من الصعب التمييز بين الفلسطينيين والمصريين، وهذا ما ساعد على زيادة الترابط الاجتماعي بين البلدين مع حرص مصر على المحافظة على الهوية الفلسطينية.
اندماج الشعبين
الترابط بين مصر وفلسطين زاد أيضا زمن النكبة، إذ وصل ما يقارب 15.500 فلسطيني إلى مصر في الأعوام ما بين 1948 إلى 1960, وقد أقيمت المخيمات المؤقتة لاستضافة الفلسطينيين المتدفقين, فكانت ملاذا لهم نظرًا لقربها ولِما يربطهم بها من صِلات اجتماعية ومهنية.
وأكد د. زكريا السنوار -أستاذ التاريخ بالجامعة الإسلامية- في هذا السياق أن الموقع الجغرافي المتلاصق بين مصر وغزة عبر التاريخ جعل حركة التنقل نشطة بين الطرفين, "كما إن الديانة كانت واحدة عبر العصور من المسيحية حتى انتشار الاسلام, وهذا ما سمح بوجود علاقات اجتماعية وتجارية عبر التواصل من خلال البحر المتوسط الأمر الذي انعكس على الترابط الاجتماعي".
وقد ساعد زمن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وسياساته الرامية إلى الوحدة العربية الفلسطينيين كثيرا؛ إذ دُعي كثيرون من المقيمين في غزة للدراسة والعمل والتملك في مصر، وعُوملوا كأنهم مواطنون مصريون.
"وصل ما يقارب 15.500 فلسطيني إلى مصر في الأعوام ما بين 1948 إلى 1960
"
وكان باستطاعة أبناء الفلسطينيين المقيمين في مصر وغزة الالتحاق بالمدارس الحكومية والاستفادة من الرسوم الجامعية المُخفَّضة, وهذا ما شجع الفلسطينيين على البقاء في مصر والاندماج بين شعبها والزواج من مصريات.
وفي أعقاب حرب حزيران/يونيو 1967 وبعد احتلال (إسرائيل) لِما تبقى من فلسطين ومرتفعات الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء لم يستطع الفلسطينيون القاطنون في مصر العودة إلى غزة, فتؤكد الإحصاءات أنه وبحلول عام 1969 بلغ تعداد الفلسطينيين في مصر 33 ألف فلسطيني.
وهنا لفت السنوار إلى أن وقوع القطاع تحت الحكم المصري لفترات طويلة ومتباعدة ساعد في اعتبار غزة قطعة من مصر، "وه ا ما زاد من حجم المصاهرة والعلاقات الاجتماعية", موضحًا أن فترة حكم الإدارة المدنية المصرية في غزة أثرت كثيرا على المستوى الاجتماعي.
وبين أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي حافظت على اسم فلسطين بعد النكبة عام 1948 في قضية الأراضي، "وحافظت على الاسم والوثيقة الهوية الفلسطينية, ولم تسع لضم غزة وجعلها قطعة من الأراضي المصرية كما فعلت الأردن مع الضفة الغربية, وهذا ما يحسب لمصر ورئيسها في ذلك الوقت عبد الناصر".
وأشار إلى أنه وفي تلك الفترة أصبحت غزة تحت الحكم المصري، "وكانت الحركة مسموحة بين البلدين، ونشطت التجارة، وتم جلب مدرسيين وموظفين ووعاظ وفئات مختلفة من مصر، وتزوج عدد كبير منهم من فلسطينيات واستقروا في غزة".
ترسيم الحدود
ورغم أن سياسات عبد الناصر ساعدت في دمج الفلسطينيين في مصر فإن تجنيس الفلسطينيين لم يكن يومًا أحد الخيارات المطروحة في مصر، فقد كان للتوترات السياسية بين منظمة التحرير والحكومة المصرية تداعيات سلبية على الفلسطينيين المقيمين في مصر.
"عددا من العائلات الغزية لها أصول مصرية، وهذا مرده إلى أن الدول العربية لم تكن بينها حدود
"
وبعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر و(إسرائيل) واغتيال وزير الثقافة المصري يوسف السباعي في نيقوسيا عام 1978 عانى الفلسطينيون من تراجعٍ كبير على صعيد الحقوق التي تمتعوا بها حتى ذلك التاريخ في مصر, وأثناء الجنازة أعلن رئيس الوزراء المصري آنذاك مصطفى رياض بأنه ’لا فلسطين بعد اليوم’.
وكان احتلال قطاع غزة وسيناء ثم اتفاقية كامب ديفيد بداية المأساة لأهالي القطاع ولاسيما مدينة رفح التي لم يكن يفصلها عن رفح المصرية أي حدود, ولكن بعد الاتفاقية وتنفيذ الشق الخاص برسم الحدود (الفلسطينية-المصرية) تم فصل رفح المصرية عن رفح الفلسطينية، وبذلك تم تشتيت العائلات وفصلها عن بعضهم بعضا مما أدى إلى خلق كارثة إنسانية خاصة بعد أن تحكم الكيان الصهيوني بمعبر رفح وأصبح القوات الصهيونية تمنع مرور الفلسطينيين من خلال هذا المعبر.
السنوار أوضح أن عددا من العائلات الغزية لها أصول مصرية، "وهذا مرده إلى أن الدول العربية لم تكن بينها حدود رسمية زمن الخلافة الإسلامية، فكان العرب يتنقلون بين البلدان المختلفة بحرية، لذلك جاءت بعض العائلات من مصر وأقامت بفلسطين خاصة في قطاع غزة أثناء حملة إبراهيم باشا عام 1831، وعندما انتهت الحملة عام 1840 بقي عدد من المصريين في فلسطين وتزوجوا وأنجبوا واستقروا فيها".
وشدد على أن العلاقات الاجتماعية بين البلدين تؤكد أن الشعبين جسد واحد، موضحا أن ترسيم الحدود وإغلاق المعبر أثرا على الترابط الاجتماعي بين الشعبين، "لكنهما لم يمنعانه".
وقد أخذت العلاقات الاجتماعية والمصاهرة بالزيادة في السنوات الأخيرة مع انتشار الأنفاق على طول الحدود, فقد أصبح كثيرون من الشباب الغزيين يتزوجون من فتيات مصريات خاصة مع سهولة التنقل من خلال الأنفاق والوصول إلى المدن المصرية القريبة من حدود قطاع غزة.