هناك على قارعة الطريق بين مدينتي رفح وخانيونس جنوب قطاع غزة، يتواجد مكتب سفريات "الدار الآخرة"، الخدمة فيه تقتصر على مغادرة المسافر دون عودته أبدا.
زبائنه هم الموتى فقط، وإكرامهم جُل ما يمكن تقديمه، يغادرون وبحوزتهم مستندات التوجه لـ "الدار الآخرة".
الحانوتي "حيدر المصري" 45 عاماً هو السائق الوحيد فيه ولا سواه، يأتي المسافر –الميت- ويتولي شؤون تغسيله وإلباسه الكفن حتى يصل إلى الوجهة المطلوبة وهي "القبر".
"الرسالة نت" استغلت عدم وجود مسافرين والتقت الحانوتي للإطلاع أكثر على حقيقة مهنته.
يقول المصري إن فكرة افتتاح "مكتب تاكسيات الدار الآخرة" نبعت من حاجة خانيونس لمهنة كهذه ولوازم دفن الموتى.
ويؤكد أنها "ليست مهنة موروثة بقدر ما هي عبادة يتقرب بها إلى الله عزوجل".
وما يُثير العجب أن المصري لجأ إلى وضع اليافطة التي تحمل اسم المكتب –الدار الآخرة- على شيالة للموتى؛ لتكون تذكرة للمارة بالموت.
يبتسم الحانوتي لأجل التسمية ويقول: "لا شك أن تسمية المكتب أدهشت الجميع وأثارت استغرابهم، فقد دفعت أناساً كثر –خاصة الأغراب- إلى تصويرها بعد أن جذبت انتباههم".
ويشير إلى أنه تعلَّم المهنة على أصولها من كبار رجال الدعوة في غزة، وأخذ يمارسها بافتتاح محل خاص به قبل خمسة أعوام.
ويقتصر عمل المصري على تجهيز المتوفى "من الألف إلى الياء" وفق وصفه، طبقاً للشريعة الإسلامية.
الحانوتي لا يتقاضي أجراً البتة، لكن "الإكرامية" هي نصيبه من أهل المتوفى وذويه.
يقول إنه لا يفرض مالاً على أهل المتوفي ولا يسألهم شيئاً، إنما يحوز ما يتكرمون به.
وفي غمرة انشغال "الرسالة نت" بالحديث مع الحانوتي، وإذ بمسافر جديد يطرق باب المكتب.
أناس فقدوا عزيزاً وجاءوا للمصري كي يجهزوا له رحلة للدار الآخرة ومستنداته اللازمة (كفن – رائحة – لحد – سواك .. إلخ).
"وجه الرسالة عليَّ خير، أحدهم توفي في المنطقة، أجتني رزقة والحمد لله" هذا ما قاله الحانوتي وقت إقبال أهل المسافر (الميت).
المصري عاطل عن العمل ويعيش أوضاعاً اقتصادية "صعبة للغاية"، ويعيل أسرة مكونة من 8 أفراد، ولا مهنة تغنيه السؤال سوى إدارة "مكتب تاكسيات الدار الآخرة".
يقول ضاحكاً: "مكتب الدار الآخرة مشروعي الوحيد على وجه الكرة الأرضية الذي لا أستطيع توسعته, لأن الموت والحياة بيد الله, ولا يعقل أن نتمنى الموت للناس كي نسترزق !".
ويتبع حديثه بأبيات من الشعر "الموت كأس والكل شاربه.. والقبر منزل والكل داخله"، في إشارة إلى أنه سيواصل مهنته ولن يتقاعد.
جُل ما يطلبه المصري هو "سيارة خاصة بنقل الموتى"، ويشير إلى أن خانيونس تفتقر لسيارات نقل الموتى.
ويضيف: "أحياناً تحدث أزمة إنسانية نتيجة نقص وسائل النقل الخاصة بالموتى من الجهات كافة".
ويوصي المصري –أخيراً- كل من يعتزم العمل في هذه المهنة –تغسيل وتجهيز الموتى- بأن يكون أميناً على ما بين يديه وألا يفشي سره مهما كان إلا لضروة ماسة، وأن يكون عالماً بالأمور الشرعية الخاصة بفقه الجنائز.
تركنا الحانوتي ليقود رحلته الجديدة، ولسان حاله يدعو بعمر مديد لقراء "الرسالة نت".