دمشق- الرسالة نت
الوقت عصراً.. صحوت منذ بعض الوقت.. أحتسي قهوتي الصباحية المسائية.. بالهاتف أخبرني أحمد رافع بإيقاعه المعتاد السريع.. أننا غداً سنطير إلى القاهرة.. إذ إنه جاءت الموافقة من (مصر طبعاً) بالسماح لنا بالسفر إلى أمي.. إلى أبي.. إلى جدتي.. إلى غزة هاشم.. لم أصدق ما تسمعه أذناي.. وبدأت الدنيا تميد تحت قدمي..
وبعد لحظات المفاجأة.. ما زلت غير مصدقة.. فاتصلت بالأستاذ باسل الخطيب وتأكدت منه.. إن ما سمعته لم يكن حلماً.. بل حقيقة. طارت الطائرة.. هبطت الطائرة.. وصلنا مساءً إلى أم الدنيا مصر وأنا أعرفها جيداً فهي تحتضن رفاة والدي.
استقبلنا في المطار السفير السوري في القاهرة يوسف أحمد وموظفو السفارة مع أننا فلسطينيون لكن عندنا ميزة مهمة جداً فنحن نقيم في سورية كان الحب يملأ عيون من استقبلوننا وقلوبهم.. تعاملوا معنا بكل عناية ودقة وحساسية.. حتى وصلنا إلى الفندق.
في الليل أردت النوم في ساعة مبكرة على عكس عادتي.. غداً سننطلق باكراً.. سنصل معبر رفح.. حاولت النوم مراراً وتكراراً.. تحدَّثت إلى وسادتي.. تحدثت إلى المرآة أمامي.. تحدّثت إلى الضوء الشحيح الذي يقتحم غرفتي عبر ستائرها الكبيرة.. أنا لا أكاد أفقد عقلي.. أنا فقدته منذ أمس.. منذ ذلك الاتصال عصراً.. لم يغلبني النعاس.. بل غلبته.. هزمته.. أرديته صريعاً.. تلك العواصف التي تولدها نبضات قلبي أحالت النعاس هباءً منثوراً.. خرجت إلى شرفة الغرفة المرتفعة.. تأملت النيل العظيم فعلاً.. تذكرت حضارة الفراعنة وعظمتها.. تأملت بكلّ الأضواء المنعكسة على وجه المياه.. تناهت إلى مسامعي الست وهي تصدح.. أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غد.. تخيّلت عدد العشاق الذين تمشّوا على هذه الضفاف وبنوا أحلامهم قصوراً أكبر من قصر عابدين.. أحفاد خوفو وخفرع ومنقرع وتحتمس وعبد الناصر....... إلخ.. رأيت تلك العبّارات تنساب بحنو فوق هذا النهر البحر وربما المحيط.. رفعت الشمس رأسها.. بدأت رموشها تنساب على الأرض.. أمامي الدولة العربية العظمى.. بلد الثمانين مليون إنسان.. الشقيقة الكبرى.. (مصر طبعاً).. انطلقنا من القاهرة إلى رفح عبر سيناء.. الطريق قصير.. طويل.. استغرق طريق الذهاب عشر ساعات، علماً أنَّ مسافته لا تزيد على 400 كم.. ذلك الزمن بسبب كثرة النقاط الأمنية التي تدقّق بجوازاتنا وجنسياتنا وسبب ذهابنا.. أوقفونا لساعات على كل نقطة حتى يتأكدوا من الإذن الخاص بنا حسبما كانوا يبرّرون.. ربما نحن لسنا عرباً.. فنحن فلسطينيون.. نقيم في سورية.. مررنا بمفترق طرق.. عليه لوحة مرورية زرقاء عليها أسهم اتجاهات وأسماء أماكن.. هذا شيء عادي يمكن أن يشاهده أيّ إنسان في أيّ مكان من العالم.. لكن أن يكون سهم ما يشير إلى دولة اسمها فلسطين فهذا كركوب ألعاب خطرة في مدينة الملاهي.. من هنا بلدي.. أمي.. أبي.. جدتي.. قلبي يخفق بشدة لدرجة يكاد ينفجر.. بعد طول عناء وصلنا في الرابعة عصراً.. إلى ميناء رفح البري.. انتظرنا ويبدو أن انتظارنا سيكون طويلاً.. حتى يتأكدوا من الإذن الخاص بنا طبعاً.. بعدها سنعبر شيئاً اسمه المعبر وفعله عكس ذلك.. بقينا نعيش في باص أقلنا من القاهرة سبع عشرة ساعة.. على أرض النيل (مصر طبعاً).. في الحادية عشرة ليلاً.. أذنوا لنا بتجاوز المعبر المصري.. الموت أمامك.. خلفك.. فوقك.. تحتك.. يحاصرك من كل حدب وصوب.. رائحة الشقاء واليأس والبؤس تفوح من كل شيء.. الدمار أمر رأيته في نشرات الأخبار كثيراً.. عيون البشر مليئة بالدموع.. هدم القتلة الحجر والشجر.. أعرف ذلك.. لكني لم أعرف أنهم هدموا البشر.. شعب كامل يعيش عزاءً مستمراً.. الموت صديق لكل من يتحرك ومن لا يتحرك.. هل هذه غزة هاشم.. وطني.. أمي.. أبي.. جدتي.. في منتصف ذاك الليل ما بين الرابع والخامس من الشهر الأول في العام 2010.. تجاوزنا الحاجز الفلسطيني.. قبَّلت يد جدتي.. بكل تجاعيدها.. بكل لونها المسمر.. بكل دماء من عاشوا هنا واستشهدوا.. قبَّلت تراب غزة.. تمنيت لو أحمله بين جفني.. تمنيت أن أمضغه وأبلعه.. تمنيت أن أذيبه بالماء وأشربه صباح مساء.. تمنيت حفر نفق بأظافري لأعيش فيه حتى تأتي ساعتي.. فهذه النجوم في السماء.. لا تشبه نجوم أيّ بلد ذهبت إليه.. عبق الأرض هنا مختلف.. البرد هنا لذيذ.. إني أولد من جديد.. تحسست أصابعي.. وجهي.. شعري.. نعم.. أنا أخلق من جديد.. أنبعث من جديد.. أنا إنسان جديد.. أنا المولودة في 4/1/ 2010 شكران عبد الوهاب مرتجى.. لاقانا الأبطال المرابطون.. كان استقبالهم رائعاً فنحن أبناء وطن واحد.. هو غزة.. وفوق ذاك نحن نقيم في سورية.. الحركة خفيفة في الشوارع، فنحن بعد منتصف الليل..
منهم تعلّمت الحياة....
رأيت الغزاويون.. تعلمت الحياة.. فهمت كيف تخلق من الموت الولادة.. هؤلاء ليسوا أناساً مثلنا.. إنهم لا يشبهون أحداً.. هم بشر قهروا الموت.. يهرب منهم.. يطاردون فلوله في كلّ لحظة.. الضحك يفيض من عيونهم.. يصفقون.. يرقصون.. يغنون.. يمرحون.. يزغردون.. هذه هي غزة هاشم.. جدتي.. أبي.. أمي.. وليست تلك التي تخيَّلتها ما بين المعبرين المصري والفلسطيني.. رافقنا الشجعان حتى الفندق.. مررنا بقرب حي الزيتون.. وبمنزل الشيخ المجاهد أحمد ياسين.. بالأرض التي اقتلع شجرها القتلة.. وصلنا الفندق المطل على البحر الذي طالما سبح فيه والدي وهو صغير.. أتينا نحن من سورية.. عبر مصر.. إلى أهل غزة هاشم.. لنشد من أزرهم.. لنشاركهم عناءهم.. فإذا بهم هم من يشدون أزرنا.. من يشاركوننا عناءنا.. كنا نظنهم محاصرين كما تخيلت بعد المعبر المصري .. فاكتشفت أنهم أناس حاصروا الحصار.. بعد كل هذا التعب.. صعدت إلى غرفتي.. فتحت النوافذ.. كان البحر أمامي.. شممت رائحته.. سمعت صوت أمواجه.. استلقيت في فراشي.. نمت نوماً عميقاً.. لم أنم مثله.. منذ أن كنت جنيناً يحملني بطن أمي..
حلمت بنوارس حملتني بعيداً جداً.. إلى جزيرة لا يوجد مثلها إلا في الخيال.. أخبرتني الجزيرة أنه في زمن مضى.. كان بقربها جزر أخرى تخفّف عنها.. عراكها مع أمواج البحر.. تهاوت كل الجزر وسقطت في أعماق المحيط..
بقيت وحدها تلك الجزيرة.. تقارع الموج.. تحدثت لها عن طفولتي.. عن محبتي لأبي وأمي.. تحدثت لها عن قصة حبي وعشقي .. فنحن أصدقاء منذ الأزل.. ثم كان الصبح.. نهضت مسرعة إلى الشرفة.. رأيت غزة صديقتي في ضوء النهار.. رأيتها حورية.. تسلتقي على شاطئ البحر.. تستمتع بأشعة الشمس.. يزين جيدها عقد من اللؤلؤ.. ينساب شعرها على الأرض أطفالاً وشباباً وشيوخاً ونساء.. تداعبه ريح خفيفة.. فيمتلئ حياة وأملاً وثقة وتصميماً..
شربت مع غزة الحورية قهوة.. كان البن فيها من تراب الأرض.. الهيل من إرادة الحياة.. ماؤها من مياه البحر.. السكر من تصميم البشر..كانت من أكثر لحظات حياتي أمناً وسعادة وسكينة..
في ذاك الصباح الغزاوي.. انطلقنا إلى مجمع الوزارات.. حاول القتلة تدميره مراراً وتكراراً العام الفائت.. لم يستطيعوا.. ولن يستطيعوا.. بعدها إلى وزارة العدل.. ثم إلى المدرسة التي قصفها القتلة بالفوسفور الأبيض.. جلست مع الطفل الذي شاهدته أيامها على القنوات الإخبارية وقد فقد بصره.. أخبرته عن حزني وأسفي لحاله.. فعاتبني على حزني وأسفي لأنه -وبرأيه- الحزن شيء يومي في حياته؛ فهو معتاد عليه لا يستطيع العيش من دونه.. بل هو مستمتع به..
هذه هي ثقافة الحياة عند هذا الشعب المرابط.. هذا الشعب الذي ينجب أطفالاً رجالاً أشداء..
كانت الذكرى الأولى لحرب الفرقان.. حضرنا بروفات الاحتفال بها.. ذهبت إلى منزل عائلتي (آل مرتجى).. أعمامي وأولادهم.. نزلت من السيارة.. فإذا بالناس في حي الرمال.. موطني الأصلي.. يستقبلونني بالورود بالرياحين.. لأنني انتصرت.. وجئت إليهم.. الزغاريد تمزق السماء.. القبل لا تعد ولا تحصى من كل كبير وصغير.. ينظرون إلي كمنتصرة.. وأنظر إلى نفسي كمهزومة.. فهم المنتصرون وليس أنا.. الأبناء كلهم يتابعون دراستهم.. من أنهى دراسته منهم أهداني رسالة تخرجه..
جلس بقربي صديق والدي.. رجل طاعن في السن.. نظرت في عينيه.. سألته عن حاله.. كان واثقاً أنه لن يموت قبل أن يصلي في القدس..
أعلم أنَّ عدد أفراد عائلتي كبير.. لكن لم أعتقد إلى هذا الحد.. غصَّ الصالون بالأقرباء.. كلهم يشبهونني.. ألسنا أبناء عمومة.. كان كرنفالاً حقيقياً دون أيّ تنظيم..
في اليوم التالي.. اشتريت «الزعتر» الفلسطيني.. وليمون (البنزاهير).. أحضرت حفنة من التراب.. عاد المجاهدون المرابطون ليأخذونا في جولة.. الأطفال يلعبون ببقايا القذائف والصواريخ الأمريكية.. وقفت معهم.. غنوا لي شارة مسلسل باب الحارة.. فاجأني الناس هناك بمدى حبهم لدرامانا.. زرت قبر جدتي لأبي (أسماء).. قرأت لها الفاتحة.. غسلتها بدموعي.. هي في ذاكرتي أسطورة.. رواها أبي لي وأنا طفلة.. أنا أغبطها لأنَّ الأرض التي تحوي رفاتها.. أكثر الأراضي حياة وحباً وأملاً..
زرعنا ياسمينة دمشقية كنا أخذناها معنا.. وجلبنا معنا زيتونةً غزاوية.. المرابطون لا يدعوننا نغيب عن ناظرهم.. دون أن نشعر بذلك..
في الليل توجّهنا إلى ذاك الشيء.. الذي اسمه معبر ويمنعك من العبور.. فقد علمنا أنهم منعوا وفدين من العبور.. سأغادر وطني.. وطن الحرية.. سأدخل إلى سجن كبير.. فيه من يسمح ويمنع.. لا لشيء إلا لأجل الأمن القومي.. ربما نحن قاذفات (ب 52) أو طائرات (ف 16) نهدّد أمن هذا السجن.. بعد ساعات من الانتظار.. حتى يتأكدوا من الإذن والثبوتيات.. سمحوا لنا بالعبور..أخذنا الطريق من رفح إلى القاهرة.. استمر الطريق لمدة ثلاث ساعات ونصف.. فهذا طريق الإياب.. لم يوقفنا أحد..
أنا أعود إلى البداية والنهاية.. المنطلق والمستقر.. أعود إلى وطني سورية.. سورية التي يحمل ترابها كل اللاجئين العرب.. من فلسطينيين وعراقيين ولبنانيين عند الحاجة..
شكراً..
شكراً جزيلاً أحمد رافع لأنك أسهمت في تحقيق حلمي برؤية وطني من جديد.. شكراً: باسل الخطيب- تيسير إدريس- نزار أبو حجر- ندين سلامة- محمد رافع؛ شركائي في رحلة الولادة من جديد..
شكراً للمرابطين في أرض الرباط.. شكراً لمن علمني الحياة من جديد..
شكراً لكل من أسهم في تحقيق هذا الحلم من جديد..
شكراً سورية كل يوم.. وكل ساعة.. وكل لحظة من جديد..
ملاحظة مهمة
لم ينقطع السفير السوري في القاهرة وموظفو السفارة والصحفي علي جمالو مدير مكتب سانا في القاهرة عن الاتصال بنا ساعة بساعة منذ هبوطنا في القاهرة وطوال فترة وجودنا في غزة وحتى إقلاعنا من القاهرة من جديد..