غزة/ أمينة زيارة
ما زالت صور الجثث المتقطعة والأشلاء المتفحمة والنيران المشتعلة تسيطر على ذاكرة من تلقوا الضربة الأولى في العدوان رغم مرور عام على المجزرة، أحياء عاشوا تلك اللحظات وسجلوها في التاريخ بما احتوت من معاناة وألم وحزن ووداع لأحبة.
"الرسالة" استعادت مع الضابط نعمان حبوش من إدارة المباحث العامة في مركز العباس بعض مشاهد المجزرة.
أمطار القذائف
ويبدأ الضابط نعمان حبوش بسرد لحظات وصوله الأولى إلى مقر عمله في مركز العباس: وصلت مقر عملي في العاشرة صباح يوم السبت على غير العادة وبدأت أتفقد رفقاء العمل وأحبائي في غرف المركز وأثناء جولتي فوجئت وزملائي بانفجارات ضخمة في الخارج فهرعنا لمعرفة السبب، وعند البوابة باغتتنا قذيفة رمت بنا مترين للخلف وسقط شهيدان على الفور، ويضيف: لم أفكر في ذلك الوقت إلا بالمساجين في نظارة المركز، فسارعت إلى النظارة لإخراجهم.
ويصمت لحظة وكأن ذاكرته تستعيد شريط ذلك اليوم الدامي ليقول: دقائق فصلتنا عن أمطار قذائف طائرات الأف16 فقد تلقى المبنى صاروخين إف 16 أصابته مباشرة وأنا والمساجين أسفله وأصبح كومة من التراب، ويستطرد: سارعت إلى فتح أبواب النظارة وأنا اكبر بهدف طمأنة المساجين بأنهم ليسوا وحدهم وكذلك إشعار زملائي بأننا على قيد الحياة وحاولت جاهداً الخروج بهم من المركز سالمين لأن أرواحهم أمانة لدينا.
ويضيف: بعد إخلائهم شعرت بإصابتي وبدأت أشعر بألم شديد وسرعان ما سقطت على الأرض وتوالت الانفجارات تحاملت على نفسي خاصة عندما سمعت تكبيرات زملائي ومحاولتهم رفع السقف والركام.
ويتابع: رغم الجروح والآلام في جسدي فقد واصلت طريقي للخروج من بين الركام وما بدأت ألتقط أنفاسي حتى أسقطت طائرة الاحتلال صاروخ ضغط هواء أثار الغبار واحرق بعض غرف المبنى وأصابتني شظايا الصواريخ مرة أخرى واخترقت جسدي وحرقت ملابسي.
جثث وأشلاء
ويستذكر أخر اللحظات برفقاء دربه وعمله "شهداء مركز العباس" فيقول: بدأ الشباب رحمهم الله برفع ركام السقف المتساقط بحثاً عني وعن المساجين وهم يكبرون وعندما رأوني خارجاً والدماء تغرق جسدي بدأوا باحتضاني والتهنئة بالسلامة.
ويحاول حبوش حبس دموعه وهو يتذكر وجوها مبتسمة شاركته فرحته وترقيته وأخرى غضبت لغضبه فيقول: شاهدت جثث الشهيدين رمضان أبو الخير وسامي عبد اللطيف متفحمة ومقطعة الأطراف من شدة الانفجارات.
ويضيف: في تلك اللحظة كانت الطائرات لازالت تحلق فوق المركز فصرخت بالشباب بأن يبتعدوا عن المكان خوفا من استهداف المركز من جديد، وما أن خرجت صرخاتي حتى فوجئت بصاروخ يمر من جانبي ويسقط ليفتت جسد رفيق دربي وصديق عمري محمد حبوش ويسقط ستة شباب مضرجين بدمائهم الزكية وهم من خيرة عناصر المباحث العامة.
استئصال..!
يواصل حبوش قصة المعاناة: من شدة الانفجار استقبل جسدي عشرات الشظايا المسمارية التي اخترقت الأمعاء والكبد والأطراف والوجه.
ويتابع: وصلت إلى مستشفى الشفاء مغمىً علي اثر الإصابة والنزيف الشديد وتم نقلي إلى غرفة العمليات حيث أجريت لي عملية عاجلة لاستئصال جزء الأمعاء والكبد حتى لا يؤثر على باقي الجسم.
ويواصل حبوش سرد أحداث اللحظات التي لا تنسى: أثناء فترة علاجي في المستشفى تم قصف مسجد الشفاء وقد أصيب الجرحى بشظايا القصف ومن ثم تم نقلي إلى مستشفى "الوئام" في تل الهوا وقد تعرضت الأخرى للقصف.
ويضيف: عشت أياما صعبة بسبب فقدان أحب الناس وأقربهم إلى قلبي من زملائي في المباحث العامة، فقد كانوا خيرة الأخوة والعاملين الذي لا يكلون ولا يملون، فقد عشت معهم سنوات العمل الشرطي الذي اظهروا خلالها المهارة والخبرة والصحبة الصالحة، وكذلك المرض الذي أصابني وأعاقني عن وداع أحبي ومواصلة عملي العسكري.
مواصلة المشوار
ويصمت قليلاً كي تستفيق ذاكرته من المعاناة والألم فيقول: ما حدث أمامي في مركز العباس أبشع ما اختزنته ذاكرتي حيث الجثث المتفحمة والأطراف المبتورة والمباني المهدمة والمحروقة، موضحاً إلى أنه في ثوان معدودة كل شيء ضاع "رفقاء وأحباء ومبنى تركنا بصماتنا في أروقته بضحكاتنا وخبراتنا".
ويستدرك: رغم الضربة التي تلقيناها إلا أننا لم نيأس يوماً أو نتراجع فقد عملنا في اليوم الثالث للحرب فواصلنا المشوار وانتشرنا في الشوارع رغم الفراغ الكبير الذي تركه عناصر الشرطة في جميع الإدارات إلا أنها خرجت أقوى بعد الضربة.