الضفة المحتلة - الرسالة نت
لم تكن أم مالك تتخيل يوماً أن جنينها كاد يكون ضحية الاحتلال، فهي تدرك جيداً أنها تحفظه بداخلها من كل ما قد يصيبه، ولكن بطش ذاك الجاثم على أرضها كان أقوى من محاولة أم لحماية ابنها.
ففي أحد أيام الشتاء القارص توجهت أم مالك من بيتها في قرية عطارة شمال رام الله إلى المدينة تمهيداً للولادة، ولم تكن تخيلاتها في تلك اللحظات سوى بغرفة مجهزة بأحدث الأسرّة والأجهزة الطبية لمراعاة صحة المولود الجديد، ولكنّ صراخ الجنود على سائق السيارة أوقف الخيالات الجميلة وأسبغ سوادَ الاحتلال عليها.
للتنغيص فقط!
وتقول أم مالك إن الجنود أوقفوا السيارة التي كانت تستقلها مع زوجها على حاجز عطارة العسكري، وباشروا بالتدقيق في هويات الراكبين، بل إنهم أصروا على تفتيش السيارة وإنزال الراكبين منها عندما علموا أن امرأة حاملاً بداخلها وبحاجة للتوجه للمستشفى بأسرع وقت.
ولم تشفع الآلام الشديدة التي أصابت الأم لها أمام ضحكات الجنود الصفراء وهم ينظرون إليها بكل ازدراء، ويسمعون صراخها من شدة الألم ، وبكل قساوة تحتوي قلوبهم، أوقفوا السيارة جانباً ومنعوا راكبيها من التحرك وأوقفوهم لساعات في البرد الشديد.
وتقول أم مالك:" لم أدر ما أفعل، وبقيت أدعو الله أن يخلصني من ظلمهم، وكلما مرت سيارة منعوني أن أصعد فيها للذهاب إلى المستشفى رغم أنني على وشك الولادة، وفجأة بدأ جسدي يستعد للولادة وأنا في الشارع أمام ضحكات الجنود الاستفزازية.. حينها طلبت من زوجي أن يعيدني إلى السيارة وساعدتني والدتي التي كانت معنا في ولادة ابني البكر، وفعلاً يومها ولدت ابني مالك على الحاجز العسكري!".
وتبين أم مالك أن ذاك اليوم الذي لن تنساه ما عاشت، انتهى بمجرد ولادة ابنها، حيث سمح بعد ذلك جنود الاحتلال للسيارة بالذهاب إلى المستشفى، لافتة إلى أن صحة المولود كانت في حالة حرجة خاصة وأنه تعرض لبرد الشتاء القارص وإجرام الجنود في أولى لحظات حياته.
نقاط موت
ولا يقتصر تضييق الحواجز التي تفصل مدن الضفة عن بعضها على حالات الولادة، بل إن المرضى والجرحى من المواجهات مع الاحتلال يتم التضييق عليهم أثناء محاولتهم المرور عليها، الأمر الذي أدى إلى استشهاد العديد منهم وتدهور حالة الكثيرين حتى تحوّلت إلى نقاط للموت تمنع حتى سيارات الإسعاف من عبورها.
وتؤكد تقارير طبية فلسطينية أن عدد المرضى الذين استشهدوا على حواجز الاحتلال في الضفة يزيد على 200 حالة منذ بداية انتفاضة الأقصى، إضافة إلى أكثر من 70 سيدة أُرغمت على الولادة عليها، وأمام تجاهل الجنود لصرخات الألم لديهن فإن 50 جنيناً توفوا وعدة سيدات أصبن بمضاعفات شديدة، ناهيك عن أن حوالي 7 سيدات حوامل تعرضن للضرب المبرح وإطلاق الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع من قبل الجنود الأمر الذي أدى إلى إصابتهن بجروح.
ويصل عدد الحواجز العسكرية في الضفة المحتلة إلى ما يزيد على 500، حيث يصعب حصرها بسبب تزايدها يومياً وتغيير أماكنها، أما الهدف الرئيس منها فهو تضييق حركة التنقل على الفلسطينيين بين مدنهم التي أمست مناطق معزولة ممنوعٌ عليهم دخول بعضها، وغالباً ما تتواجد آليات الاحتلال على مداخل كل قرية مانعة الدخول إليها بعد تفتيش المركبات وإعاقة حركتها.
وتتنوع أشكال تلك الحواجز، فمنها الثابت الذي أقامه الاحتلال منذ بداية الانتفاضة وما زال حتى الآن يبتلع أراضي الفلسطينيين بحجة زيادة مساحته لتأمين الحماية لجنود الاحتلال، ومثال ذلك حاجز حوارة العسكري جنوب مدينة نابلس، وعطارة شمال رام الله والكونتينر بين مدينتي رام الله وبيت لحم، وهذا النوع من الحواجز يكاد يكون منطقة عسكرية بأكملها، حيث يشيّد الاحتلال فيه الأبراج العسكرية ويقيم الساحات الضخمة لاستيعاب كافة أنواع الآليات، ويغير من شكل الطريق كي تتلاءم مع رعبه الأمني.
أما النوع الآخر من الحواجز الثابتة فهي تلك التي أقامها الاحتلال تحت رحمة مزاج جنوده، فأحياناً تعج بالمركبات والمواطنين الذين يحاولون الوصول إلى بيوتهم وأماكن عملهم، وأحياناً أخرى تكون خالية من المارة، ويقيم فيها الجنود غرفاً لفحص الهويات وطرقاً عدة لمرور المركبات وشوارع مشوهة تحت مسمى الإجراءات الأمنية، ومثال عليها حاجز زعترة جنوب مدينة نابلس وجبع شمال شرق القدس المحتلة والفوار شرق الخليل وحاجز عناب قرب طولكرم.
ويتمثل الشكل الأخير للحواجز في ما يسمى بـ "الحواجز الطيّارة" وفق قاموس أهالي الضفة المحتلة، وتعني الحواجز المفاجئة التي ينصبها الاحتلال في جنح الظلام أو ساعات النهار وفق معلومات استخباراتية تفيد بأن "مطلوباً" قد يمر من إحدى الطرق، فيسارع جيش الاحتلال لينصب حاجزاً ويفتش سيارات المارة ويعيق حركة السير لساعات عدة حتى يعتقل أحد الفلسطينيين ويسميه مطلوباً!.
في الأفراح والأتراح
وعلى الرغم من أن بعض المناسبات تفرض وجودها على كل مظاهر الحياة في بعض الأحيان، إلا أن الحقد الدفين لدى جنود الاحتلال ضد كل ما هو فلسطيني يحوّلها إلى فرصة لتضييق حياة الفلسطينيين والاستهانة بها، فكم من جنازة شهيد أو متوفى أعاقها الاحتلال عن المرور على إحدى الحواجز، وكم من حفل زفاف اختُزل في أمنية للمرور على حاجز عسكري؟
وفي هذا الإطار تقول المواطنة رانية من مدينة رام الله إن يوم زفافها كان أشبه برحلة عناء، حيث منعها الاحتلال من المرور لتصل إلى قاعة الأفراح، وأجبرها على السير مسافة طويلة على حاجز سردا العسكري الذي كان مقاماً بين المدينة وشمال الضفة، ومن ثم أوقفها الجنود مرة أخرى وأجبروها على الانتظار حتى انتهى الوقت المخصص لحفل الزفاف.
وتضيف:" تم تأجيل حفل الزفاف مرات عدة بسبب حظر التجول الذي كان يفرضه الاحتلال على مدن الضفة، حتى اضطررنا إلى كتابة عبارة (يؤجل للخميس الذي يليه إذا أُعلن حظر التجول) في بطاقة الدعوة، وعندما أقيم حفل الزفاف منعنا الجنود من الوصول إلى قاعة الأفراح واحتجزنا على نقاط الموت تلك وبقي الجنود يتعمدون إبقاءنا تحت حر الشمس وهم يتضاحكون فيما بينهم".
ويستغل جنود الاحتلال وجود الحواجز لإذلال الفلسطينيين واعتقالهم دون ذنب يرتكبونه، ففي كل يوم يشرع الجنود باعتقال فلسطيني على الأقل على أحد حواجزه بحجة أنهم مطلوبون تارة، أو أنهم يحملون أدوات حادة تارة أخرى، علماً أن أغلب تلك التهم تكون عارية عن الصحة وملفقة من قبل الجنود، كما أن إطلاق النار تجاه المارين على الحواجز أصبح سياسة ممنهجة من قبل جيش الاحتلال.