كاستثناء في منطقة الشرق الأوسط، تتميز متابعة الانتخابات في إسرائيل بالمتعة، لأن مفاجآت مثيرة قد تحدث، كمفاجأة ولادة السياسي «يائير لابيد» زعيم حزب «يوجد مستقبل»، الجريء الذي أثار إعجاب حتى خصومه السياسيين حينما استقطع 19 مقعدا في الكنيست الإسرائيلي. وهو رجل إعلام، قرر منذ أشهر قليلة خوض غمار السياسة ومزاحمة الرؤوس الكبيرة وإحراجهم مثل ليفني وليبرمان، وأجبر بنيامين نتنياهو الذي خذله الإسرائيليون للمرة الثالثة أن يمتطي ظهر الائتلافات ليصل إلى رئاسة الوزراء. الزعيم السياسي المقبل الوسطي «لابيد» همه تطوير التعليم والمساواة الاجتماعية، يحمل معه مفاهيم ليبرالية لا يعترف بها رجال الدين اليهود ويسخر منها اليمين المتطرف.
المثير كذلك، أن غالبية برامج الأحزاب المتنافسة ركزت على تحسين الأوضاع الداخلية، كمستوى المعيشة والصحة والتعليم وتحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية، لم يكترثوا كثيرا بالسياسة الخارجية؛ لا القنبلة النووية الإيرانية ولا حل الدولتين مع الفلسطينيين. استخدمت الأحزاب شعارات العمل للداخل كما حصل في الانتخابات الأميركية الأخيرة، حينما تظاهر أوباما وميت رومني بأن أميركا بيت عائلي صغير أقصى أمنيات ربه أن يطعم أفراد العائلة ويوفر لهم التدفئة. لذلك كانت حركة حماس محقة حين قالت إن نتائج الانتخابات الإسرائيلية هي انعكاس لمعركة غزة الأخيرة. فعلا، لأن الهدنة القائمة حققت أمنا لإسرائيل جعلت الأحزاب السياسية تلتفت إلى الشؤون الداخلية.
من المؤسف القول إن إسرائيل، الدولة الغريبة، الغاصبة، المحتلة، المعتدية تعيش بيننا، ولكننا لا نعرفها.
يبدو أن آخر ما توقف عنده علم الشارع العربي بإسرائيل هي حرب أكتوبر 73، وقد يتذكرون اتفاقية كامب ديفيد لأنها ثارت مؤخرا في مصر بعد أن تغير نظام الحكم فيها. وأعني بالشارع العربي فئة الشباب التي تمثل العمود الفقري لأي دولة، وليس النخبة المثقفة أو السياسية التي أتعبت نفسها بتأليف الكتب وكتابة تصريحات التنديد وتدوين تفاصيل العدوان الإسرائيلي منذ 60 عاما. النشء العربي لا يعرف كثيرا عن إسرائيل التي هي الأخرى لم تعد كما كانت إسرائيل 1948، أو 1956، أو1967، أو 1973، ليس لأنها تحولت إلى دولة صديقة لطيفة المعشر، بل هي لا تزال عدونا البيّن، تتوسع في ابتلاع الأراضي الفلسطينية المحرمة، ولكن ما تغير فيها أنها مثل أي دولة أخرى أنجبت جيلا صاعدا يختلف في أحلامه وتوقعاته عن أحلام ساسته أمثال نتنياهو. الشباب الإسرائيلي لديه رؤيته التي تسير بعيدا عن الحياة العسكرية صوب المدنية وحب الحياة والعيش الكريم.
ما لا يعرفه الشباب العربي أن في إسرائيل جناحا قويا من المعارضين لسياسة الدولة العليا مع الفلسطينيين بشكل خاص ومع العرب بشكل عام، هؤلاء ليسوا فقط من اليسار، بل نشطاء اجتماعيون ومتطوعون من خريجي الجامعات يؤمنون بأن استقرار إسرائيل مرتبط بالتعايش مع العرب.
من المثير للسخرية قراءة تحليلات سياسية تقارن الشباب الإسرائيلي بالشباب العربي الذي ثار في تونس ومصر واليمن وليبيا، وأنهم، أي الإسرائيليين، خرجوا في مظاهرات ضد نتنياهو قبل عام مطالبين بالعدالة الاجتماعية، مثلما خرج ثوار الربيع العربي. هذا غير صحيح. في دول الربيع العربي كان الشباب ثائرا على نظام حاكم باعد بينه وبين المحكومين آلافا من السنين الضوئية، كانت أبراجهم شاهقة لا يستطيعون سماع الناس ولا رؤية احتياجاتهم. غضب الناس بسبب العوز والإهمال والتعالي، حتى إنهم كلما أرادوا معاقبة رئيسهم بإفشاله في الانتخابات خرج عليهم في اليوم التالي منتصرا بغالبية لا يعلمون من أين جاءت. في إسرائيل لا يوجد هذا الواقع، النظام في تل أبيب ديمقراطي حقيقي، وسلالم الوصول إليه ثابتة، وما يطالب به المتظاهرون الإسرائيليون هو تحسين أوضاعهم وليس البدء من تحت الصفر. هذه البيئة السياسية غير موجودة في أنظمة ما قبل الثورات، ولا حتى ما بعدها التي تدحرج علينا يوما بعد يوم صخورا من الإخفاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية.
في إسرائيل، السياسيون يتميزون بصفة الإخلاص لمصلحة إسرائيل الدولة، وليس الحزب، وهذه صفة لا نشم رائحتها في الربيع العربي.
الشباب العربي الذي سلم عقله لشعراء الهجاء الذين يبيعون الكلام، وللسياسيين الذي يكيلون الشتائم لإسرائيل من غرف الفنادق الفارهة، أصبحوا يرددون مفردات الكره الأعمى، مع أن الكره شعور قوي يفترض أن يكون ذا بصيرة ليرى أين يتوجه ولماذا وكيف.
من أبسط نماذج الجهل بإسرائيل، أن الدول المجاورة لها تجهل لغتها. في لبنان وسوريا يتمسكون بدراسة اللغة الفرنسية أكثر من اهتمامهم بلغة دولة تهدد أمنهم كل يوم، وفي مصر والأردن لا يجدون أهمية في تعميم دراسة اللغة العبرية. في حين أن مساحة تعلم اللغة العربية أوسع في مؤسسات التعليم الإسرائيلية، لذلك نجد عددا معتبرا من السياسيين والإعلاميين في إسرائيل يتحدثون العربية بطلاقة، ولا أعرف كم وزير خارجية لدولة عربية مجاورة لإسرائيل يتحدث العبرية! لا يقل لي أحد إن الإسرائيليين يفعلون ذلك لأن العربية لغة حية أكثر من العبرية، أو لأنهم دخلاء علينا، هذا تبرير الكسالى والعاجزين. السبب أن من أهم عوامل تفوق إسرائيل على العرب هو فهمها لهم من خلال اللغة؛ تعرف كيف يفكر كبارها وشبابها، تفهم نقاط قوتهم وضعفهم، تستطيع قراءتهم لأنها أذابت نفسها في ثقافتهم.
ليس من المستغرب حينما نعرف أن شباب المقاهي في تل أبيب يسمعون أم كلثوم ويأكلون الحمص، ويعتبرون مسلسل «رأفت الهجان» مسلسلا كوميديا، إنهم لا يحتلون الأرض وحسب، بل يسكنون الثقافة، وهذه هي القوة.