في زنزانة لا يتجاوز طولها الأربعة امتار يرقد ثلاثة من السجناء حكم عليهم بالإعدام نتيجة أفعال شاذة ارتكبوها أودت بهم إلى التهلكة ، طوال الوقت يترقبون وقع الأقدام التي تأتي من الخارج عله الخبر الذي يحمله الضابط لتحديد موعد تنفيذ الحكم ربما برصاصة رحمة تخلصهم من شبح الانتظار القاتل.
يقضون جل وقتهم داخل غرفتهم بالانشغال بأعمال بسيطة لكن انظارهم مصوبة نحو عقارب الساعة -علها الأخيرة- التي تعلن رحيلهم عن الحياة الدنيا ، فهم يحاولون عيش اللحظة واغتنامها في ذكر الله والاستغفار ويردد كل منهم في سريرته "مظلوم" .
أحدهم قتل من أجل المال وآخر غير متعمد وثالث باع ضميره ووطنه لإرضاء العدو وفق اعترافاتهم "للرسالة" التي زارت سجن الكتيبة للتعرف على حياة النزلاء من لحظة نطق القاضي بحكم "الإعدام".
تأنيب الضمير
النزول عبر درجات السجن إلى غرفة مدير الامن كان له رهبته، فقد كانت الغرف التي يرقد بها السجناء أصحاب الاحكام المختلفة تصطف بجانب مكتبه واعينهم تترقب أي قدم غريبة تطأ السجن.
وبعد لحظات من الانتظار أدخل الضابط رجلا محكوما بالإعدام ليروي تفاصيل حياته داخل السجن بعد اصدار الحكم بحقه.
" أعيش لحظات خوف وقلق رغم أني مستعد لتنفيذ الحكم" تلك الجملة عبر فيها المتهم "ل" -47 عاما- عما يعتريه من مشاعر عقب صدور الحكم بحقه، فقد كانت جريمته القتل المخطط له لسرقة محلا تجاريا برفقة اثنين من أصدقائه تم تنفيذ الحكم عليهما.
ورغم انهيار الأربعيني وشعوره بالخوف الشديد لحظة اعدام رفيقيه في الجريمة، اكد أن وضعه النفسي في تحسن عن السنوات السابقة ، منوها الى ان الحكم صدر بحقه منذ اكثر من خمس سنوات ولكنه لم ينفذ حتى اللحظة.
توقف عن الحديث قليلا وادار وجهه محاولا اخفاء دمعته ثم قال بنبرة تدل على ندمه "الجهل وقلة الوازع الديني دفعاني للاشتراك في الجريمة فوضعي المالي كان سيئا وأردت الحصول على المال لأعيل أبنائي بأية طريقة ولم اكن أعرف طريقا للمسجد".
ويضيف الأربعيني بكلمات ممزوجة بالألم والندم :" بعدما نفذت الجريمة هربت إلى مصر لكن تأنيب الضمير جعلني أعود وأسلم نفسي للشرطة (..) فقد عزمت على الذهاب لذوي المغدور لكن رجال الاصلاح ارجعوني خشية قتلي".
ويتمنى رؤية ذوي المغدور ليطلب منهم السماح ويعود إلى أحضان عائلته حيث يعيش أبناؤه وبناته.
وأوضح السجين أن مشهد الجريمة لم يغب عنه طوال الوقت ، مبينا أن لسانه لم يتوقف عن ذكر الله والاستغفار بالإضافة إلى الصلاة وقراءة القران للتخفيف من حالته النفسية.
وبعد ان انهى "ل" حديثه لـ"الرسالة" ترجل من مكانه وتوجه برفقة الضابط نحو الباب وهو يهوي على رجله متمتما وهو يضرب كفا بكف "إنا لله وإنا إليه راجعون".
يفكر في صديقه الذي قتله
ربما كان الحديث إلى "ل" فيه شيء من الغموض فقد كان يروي حكايته بكلمات مقتضبة بعكس زميله "غ" الذي دخل إلى الغرفة ليتحدث "للرسالة" عن قضيته ووضعه النفسي داخل السجن حيث كانت الابتسامة مرسومة على محياه يحاول أن يخفي وراءها قلقا واضرابا وخوفا من لحظة تنفيذ الحكم.
جلس بخفة بعدما ألقى التحية على من تواجد بالمكان ثم راح يصف حياته بالسجن بعد صدور حكم الإعدام عليه وقال :" ربما كان حالي أفضل من زملائي فقد تغلبت على وضعي النفسي بقراءة الكتب والتوجه إلى الله بالطاعات واشغال نفسي بأمور اخرى كتعليم بعض النزلاء الكتابة والقراءة".
طوال الحديث كان "غ" يجلس باستقامة وهو يروي حكايته ويردد " أملي بالله كبير وسأخرج من محنتي رغم حصولي على مؤبدين(..) اتوجع كثيرا حينما اتذكر الرصاصة الطائشة التي استقرت في جسد صديقي دون قصد.
حكاية "غ" تعود لسنوات قليلة حينما اقترض منه صديقه مالا ولم يستطع سداده، عندها صوب الدائن المسدس باتجاه المدين كنوع من التهديد ليرغمه على الدفع لإنقاذ ابنته المريضة إلا أن الرصاصة كانت أسرع لتستقر في قلب المغدور دون قصد، حسب زعمه.
ووصف لحظة ارتكابه الجريمة بالجنونية حيث لم يكن يعي ما فعله، فقد كان همه انقاذ طفلته، منوها الى انه عندما شاهد دماء صديقة تسيل ما كان منه سوى التوجه إلى قسم الشرطة والاعتراف بما اقترفه.
وعن لحظات تذكره للحادثة داخل السجن حرك قبعته التي يخفي تحتها ذكريات كثيرة مع صديقه وقال: "لم تغب الحادثة لحظة عن بالي ودوما أفكر في صديقي (..) لا تهمني القضبان الحديدية بقدر خسارتي لرفيق دربي".
واضاف "في حال قابلت والدته سأطلب منها أن تفعل بي ما تشاء، رغم أني لم اقصد قتله والقضاء سيثبت ذلك حينما تعلن براءتي".
وذكر انه متزوج ولديه ثلاثة من الأبناء ويتواصل معهم دوما حتى يعلي من معنوياتهم ويطمئنهم انه سينال حريته في أقرب وقت.
وواصل: "منذ لحظة دخولي للسجن وانا احاول التقرب الى ربي أكثر ، ودوما احاول التكيف مع وضعي الجديد ونسج علاقات جيدة مع النزلاء والسجانين".
حديث "غ" عن نيل البراءة كان يردده طوال المقابلة وكأنه واثق من نفسه وسيكون حرا طليقا بأية لحظة، فهو ربما منح لنفسه الثقة المطلقة التي من شأنها أن تودي به إلى حبل المشنقة.
اختتم حديثه ونهض من مكانه لمواصلة يومه في السجن مؤكدا قرب إطلاق سراحه، لاسيما وأن محاميه طمأنه بالبراءة!!.
عميل يخاف على أبنائه
ضيفنا الاخير كان من نوع اخر فهو لم يكن قاتلا بل خائن للوطن والدين من أجل حفنة من المال لا يكفي لسد رمق عائلته ، فقد سقط "ع" في براثن العمالة لأعوام كثيرة من أجل اعالة اسرته التي تعاني ظروفا سيئة كما ذكر.
وبعد ان دخل الغرفة بخطوات ثقيلة وجسد هزيل لإعداد المقابلة معه اسنده الضابط على الكرسي، فلم يكن بمقدوره النظر إلى وجوه الضيوف، فهو يدرك اشمئزاز الاخرين منه لما اقترفه.
وبصوت منخفض ذليل عرف عن نفسه بكلمات مرتجفة "والله مظلوم ما عملت شيء" ثم راح ينظر للحضور بعين ونصف يترقبهم فتارة تدمع عيناه وتارة ترتجف يداه ثم يواصل حديثه "ما عملت شيء ليحكموا على بالإعدام , كل ما ارتكبته هو ابلاغ المخابرات (الإسرائيلية) عن الانتماء السياسي لمن يسألوني عنه".
ويضيف "ع" خافضا رأسه مغمضا عينيه :" كنت ادرك أن الطريق الذي أسير فيه نهايته السجن لكني خشيت العدول بسبب تهديدات الاحتلال"، متابعا: منذ لحظة تجنيدي لم تفارق مخيلتي صورة الشرطة وهي تعتقلني.
حالة العميل هي الاسوأ من بين زملائه ولاسيما ان حكم الاعدام صدر بحقه قبل أسبوع من اجراء المقابلة معه، فلم يكن يستوعب ما حل به، فهو طوال الوقت يفكر بلحظة تنفيذ الحكم بخلاف سابقيه الذين يشغلون أنفسهم بذكر الله وقراءة القرءان بينما هو يجهل القراءة في كتاب الله.
وعند الحديث عن ابنائه اصابته حالة من التشنج وبات يتخبط ويضرب في نفسه قائلا: خايف يطلعوا متلي "وسرعان ما صوب نظره اتجاه مدير الامن ليشكو له حاله وعدم استقرار وضعه النفسي فهو طوال الوقت مكتئب، ثم طلب من المدير أن يتحدث لتوأميه -بواسطة الأنابيب- الوحيدين اللذين لم يتجاوزا الرابعة عشرة.
رغم نظرات الندم التي كان يصطنعها العميل " ليوحي انه برئ فإن "الرسالة" علمت من مصادر قانونية أن العميل الذي يأخذ حكما بالإعدام تكون قضيته كبيرة وتسبب في قتل الكثير من الابرياء ، حيث يوجد عملاء اصدر بحقهم الحبس لسنوات بحسب فعلتهم.
الاضطراب وأوهام المحامين
حياتهم ليست عادية بل مليئة بالصراعات النفسية لذا تحدثت "الرسالة" مع الاخصائي النفسي صلاح الاعرج الذي يقدم الدعم النفسي للمعتقلين داخل سجن الكتيبة ويقول :" نتعامل مع الشخص المحكوم بالإعدام باعتباره انسانا وندخله في البرامج الارشادية والدينية حتى يتقبل الحكم الصادر ضده من مبدأ "القاتل يقتل".
وأشار إلى أن بعض النزلاء المحكومين بالإعدام يحاولون المكابرة بأنهم سيخرجون من السجن ولن ينفذ فيهم الحكم وذلك بسبب الاوهام التي يقنعهم بها محاموهم.
ووفق الأعرج فإن أكثر المشاكل النفسية التي يعاني منها النزلاء المحكومون بالاعدام هي قلة النوم والعزلة والاكتئاب والقلق، لافتا إلى ان زيادة التفكير تسبب الاضطراب وتجعل الانسان يقوم بسلوك سيئ ويثور من أية كلمة.
وحول عدم ابلاغ الشخص المحكوم بالاعدام بوقت التنفيذ قال: "يمكن أن يؤذي النزيل نفسه لو علم قبل أيام وسيصاب بانهيار لعدم تقبله فكرة الموت لذا يتم التنفيذ بصورة مفاجئة".
حكايتنا هنا انتهت لكننا لم نسردها من أجل القراءة فقط بل لأخذ العبرة وعدم الانجرار وراء مطامعنا حتي لا تكون نهايتنا حبل المشنقة.