رحمة الله هي التي لطفت بك يا أمي.. فقلبك الصغير لن يحتمل بشاعة مشهدي وقد بت قطعة فحم سوداء بعدما كنت تتباهين ببياض لوني.. لن تجدي سوى غصة ألم عندما ترين ضفائري التي لطالما حلمت لها أن تطول وهي مشوهة المعالم.. ولن يكون لاسمي ساعتها مكاناً في حياتك.
اطمئني أمي فها نحن نرقد بسلام سوياً.. وها هم والدي واخوتي وحتى قمرك الصغير يرحلون معنا، وتأكدي بأن درويش لم يردد عبثاً: "وأعشق عمري لأني اذا ما مت أخجل من دمع أمي".
لم نجد من يروي لنا فاجعة الموت حرقاً لعائلة ضهير سوى جثة الطفلة فرح 3 سنوات التي خرجت أول أفراد أسرتها من ثلاجة الموتى لتلتقط لها كاميرا "الرسالة" صورة من أقسى الصور بعد أن أبى كانون الثاني أن يطوى صفحاته الا بفاجعة انسانية هي الأشد ايلاماً برحيل ستة أفراد حرقاً بسبب شمعة !!
ثلاجة الموتى
دفنت تفاصيل الحادثة وآخر الكلمات وحتى أمنيات الصغار بيوم خميس مشمس للتنزه مع أنفاسهم الأخيرة بعد أن زارهم هادم اللذات منتصف ليلة الخميس الماطرة بعد أن أحرقت شمعة استخدمتها العائلة لانقطاع التيار الكهربائي.
أمام ثلاجة الموتى بمجمع الشفا الطبي بين وجوه بائسة وأيادٍ تحتضن فقيداً جهز ليوارى الثرى كانت محطتنا الأولى للتعرف على خيوط حكاية الموت لعائلة ضهير من منطقة الشعف بغزة.
التقينا شقيق الفقيد فايز ضهير الذي أكد أنه في تمام الساعة 3 فجراً سمع صوت ارتطام قوي في شقة شقيقه حازم العليا وفوراً توجه الى الطابق العلوي لمعرفة سبب أصوات الطقطقة الصادرة من بيته، ويقول: "لم أصدق ما رأته عيني (...) النار أكلت كل شيء ولم أسمع لشقيقي أو أحد أفراد أسرته صوتاً فشعرت بأنني فقدتهم ".
أما عن روايته لتفاصيل الحادثة بين فايز أن المتوفى اضطر الى اشعال الشمعة لأن الشاحن الكهربائي (UPS) الذي اعتاد على استخدامه معطل منذ شهر، منوهاً الى أن شركة الكهرباء قامت بقطع سلك الكهرباء الخاص بمنزلهم لتراكم المستحقات وهو السبب الرئيسي لوفاة عائلة شقيقه بأكملها.
وتساءل فايز ضهير بحرقة: "شقيقي كان يعمل في السلطة القديمة من تفريغات 2005، وما يتقاضاه من راتب بسيط بالكاد يكفي لسد جوع ومتطلبات صغاره، فمن أين سيسدد فواتير الكهرباء المتراكمة؟"، وتابع: "لولا انقطاع التيار الكهربائي لما استخدم شقيقي رحمة الله عليه بديلاً لتوفير الانارة لأطفاله".
في حين أكدت الداخلية أن العائلة أعادت وصل التيار بعد ساعات من فصل شركة الكهرباء لتراكم المستحقات المالية على العائلة، وتحديداً الساعة الخامسة مساءً من نفس اليوم، بشكل ارتجالي وعاد التيار الكهربائي للبيت.
نتائج التحقيقات
وكانت وزارة الداخلية الفلسطينية قد كشفت نتائج تحقيقاتها الأولية لمعرفة ملابسات الحادث،
وعرض إبراهيم صلاح، مدير عام الإدارة العامة للإعلام والعلاقات العامة بالوزارة، في بيان مساء الجمعة النتائج التي توصلت اليها التحقيقات وذكر خلاله أن "التيار الكهربائي كان متصلا بالمنطقة بشكل عام، لكن المربع الذي تقع فيه شقة المرحوم حازم ضهير (12 منزلا) كانت الكهرباء مقطوعة عنه بسبب خلل فني طارئ في أحد فازات محول الكهرباء في الحي، ولم يكن القطع ضمن برنامج قطع الكهرباء".
"الرسالة" وبعد انتهائها من سماع رواية الحادثة، توجهت لالتقاط صور لجثث العائلة لتوثيق المأساة، وما إن أخرج الطبيب الشرعي جثة الطفلة فرح ووضعها فوق كفنها، ظهر التناقض الأصعب، بين بياض الكفن كفؤادها الطاهر ولون جسدها المتفحم كليل غزة الحالك دون كهرباء.
تباعاً خرجت جثث الأطفال الثلاثة أشقاء فرح: محمود (8 سنوات) ونبيل ( 5 سنوات) والرضيعة قمر ( 5 شهور)، وجميعها مشوهة المعالم وأطرافها متيبسة كالفحم، أما الوالد حازم ضهير (31 عاماً) وزوجته سمر (28 عاما) فتم تجهيزهما بعيداً عن (فلاشات) كاميرات الصحافة.
كان من الغريب أن نشاهد طفلاً بعمر الزهور يحاول الدخول الى ثلاجات الموتى، وبعد محاولات منه باءت بالفشل جلس على عتبات المكان والحزن يجتاح ملامح وجهه القمحي، اقتربنا منه لسؤاله عن سبب تواجده فرد بعفوية الصغار: "بستنى أشوف محمود ابن عمتي".
محمد زينه 8 سنوات كان هو الآخر ينتظر بحرقة لتوديع صديقه طفولته محمود ضهير، ومازال يذكر زينه تفاصيل آخر يوم له مع محمود وقال: "كنا نلعب بالشارع قلول ومحمود غلبني (...) ووعدني نلعب مرة تانية !!".
لابد أن الطفل محمد على يقين بأن وعد محمود له هذه المرة لن يتحقق بعد أن رحل شهيداً كما قال بلغة الكبار: "مات حرقاً فهو شهيد..".
دموع وغضب
وأمام شركة توزيع الكهرباء بشارع الثلاثيني بغزة فرغ عدد من الجماهير المشيعة لعائلة ضهير غضبهم بكسر زجاج الشركة وبعض سيارات العاملين فيها، وعند مرورنا من هناك أغلق أفراد من الشرطة الفلسطينية الشركة ومنعت المواطنين من التجمع أمامها.
الثكلى أم حازم كانت تجلس بجوار الثكلى الحاجة أم سمر في بيت العزاء لفقيديهما، واللتين لم تسعفهما الكلمات سوى ترديد: "يمه يا حبيبي يا حازم (...) وين رحتي يا سمر يمه وتركتيني ".
لم تتمكن احداهما من رسم قبلة على جبين فلذة كبدها، أو تلقي عليه نظرة الوداع بعد أن مرت جثامينهم مروراً من أمام بيت العائلة دون أن تسلم على الحاضرين هناك لبشاعة المشهد وصعوبة رؤية الأحبة فحماً.
أما الحاج الستيني أبو مازن فملامح وجهه ودموع عينه لم تسعفنا للحديث معه لالتفاف المعزين حوله.
ومن أمام بيت الراحلين تقول عمة الأطفال: "اعتاد محمود النوم في حجرة جدته في الطابق السفلي الا انه وعند بداية الفصل الدراسي الثاني عاد للنوم في بيت والده "، وبعد أن مرت جثامين عائلة شقيقها من أمامها استشاطت غضباً وبدأت تردد: "حسبنا الله ونعم الوكيل عالكهربا.. الله يجازي الي كان السبب".
وكان شقيق المرحوم قد أكد "للرسالة" أن طواقم الدفاع المدني وصلت متأخرة الى المكان وتحديداً بعد عشرين دقيقة وينقصها المعدات اللازمة.
في حين أكدت وزارة الداخلية في بيانها أن الدفاع المدني تلقى أول اتصال الساعة 3:15 ووصل مكان الحريق بعد 4 دقائق في تمام الساعة 3:19 وفق الكشف الوارد من شركة الاتصالات".
وقال مدير عام الإدارة العامة للإعلام والعلاقات العامة بالوزارة : "عند وصول رجال الدفاع المدني قام رجلان من الإطفاء يحملان اسطوانات الإطفاء بالصعود للمنزل واستصعب عليهم السيطرة على الحريق بالأسطوانات، واستخدموا الخراطيم الموجودة في سيارات الإطفاء وقد تمت السيطرة على الحريق وإخماد النيران، وإخراج الجثث بشكل تام الساعة 03:50.
بقايا ذكريات تتشح بالسواد
لا لون للحياة هنا.. لضحكات الصغار.. هنا اللون الاسود فقط يسيطر على الاجواء يستقبل الوجوه الشاحبة ليزيدها بؤساً فوق بؤسها، هو السكون القاتل الذي يلف أرجاء الحجرة التي احتوت بقايا ذكريات طفولتهم كدمية فرح التي تشوهت معالمها كما صاحبتها الراحلة.
في المحطة الأخيرة (للرسالة) كانت في الطابق العلوي لبيت الفقيد المكون من غرفة واحدة كانت تجتمع فيها أجسادهم وأنفاسهم ليلاً بحثاً عن الدفء.
وعلى ما يبدو فلم تخنقهم رائحة النار المشتعلة في بيتهم وانما طبيعة المنزل وتواضعه أعطانا دلالة بأن الوضع الاجتماعي كان يخنقهم هو الآخر منذ زمن في حياتهم المستورة.
في زوايا المكان لم نشاهد سوى الرماد مما تبقى من قطع الأثاث للعائلة المرحومة، الا اننا تعرفنا على ملامح ساكنيه من خلال صورة تذكارية لهم كانت بالعيد على ما يبدو بعد أن بات من المستحيل التعرف عليهم بعد أن تحولت أجسادهم الى قطع من الفحم!
قبل مغادرتنا المكان لفت انتباهنا لون فستان أحمر.. صغر حجمه كان يدل على أنه للرضيعة قمر.
وجود ذاك اللون البهيج في مكان لا تفوح منه غير رائحة الدخان كان يدل بأن الفرح مر من هنا يوماً ولن يعود، فقمر اليوم تنير باطن الأرض.
وشيعت جماهير غفيرة جثامين العائلة الى مثواهم الأخير في مقبرة الشهداء الشرقية ببالغ الحزن والغضب على تلك الشمعة وسبب اشعالها ليلاً.