غزة- كمال عليان-الرسالة نت
رغم اللمعان الذي يلفّ "سوق الصاغة" , وسط مدينة غزة , ِلما يعرضه من مجوهرات تخطف أنظار المارّة، وتشدهم لاقتناء الجمال الذي ارتبط اسمه بمناسبات مفرحة، إلا أن الراسخين في هذا السوق منذ عقود تلوذ في ذاكرتهم روايات أكثر إثارة، وتروي عيونهم أسرار مَن تردّدوا على دكاكين الشارع، خصوصا المقبلين على الزواج منهم.
أن يقتاد عريس عروسه و"الحماة" تحرسهما مشهد اعتيادي لدى بائعي هذا السوق، الذين يجنون جلّ ربحهم من قصص ارتباط توثّق داخل هذه المحلات.
شبكة العروس
بمجرد دخولك أولى عتبات السوق، سرعان ما يلفت انتباهك أن الزبائن الذين يطرقون بابه هم من أعمار مختلفة، فتجد الكبار والشباب , والأطفال ممّن أتوا برفقة ذويهم، وكل منهم له مطلبه المحكوم بمناسبة بعينها، وعلى رأس هذه المشتريات "شبكة العروس"، ومن بين هؤلاء مَن يبحث عن هدية تليق بزوجته أو والدته، في حين جلّ الأطفال تقتادهم الأمهات لقضاء حاجتها من هذا السوق كبائعة لقطعة ذهب أو مقتنية له وفق ميزانية الأسرة.
سوق الصاغة شاهد على العديد من الحالات والمناسبات الاجتماعية السارّة منها والمحزنة، فلا يكاد يخلو محل من شهادة له على حالات زواج تكلّلت بالفرح وأخرى انتهت بالفراق، ولا ينأى أيّ محل بنفسه جانبا عن أي مناسبات يحتفي بها الفلسطينيون سواء أكانت أعياد الأضحى والفطر أوعيد الأم وغيرها الكثير.
ويصف أحمد العمري صاحب إحدى محلات الذهب أن محله أشبه بـ"المحكمة الشرعية" الذي شهد على العديد من القصص والأحداث، مبيناً أن المشاكل التي كانت تحدث بين العروسين، باتت أقل بعد الارتفاع الكبير على أسعار الذهب، الذي أفضى إلى وجود اتفاق مسبق بين أهالي العروسين على المبلغ المخصص من المهر.
ومن بين القصص التي يرويها العمري أنه ذات مرة دخل عروسان برفقة الحماة إلى المحل، وكانت علامات التعب والإرهاق بادية على ملامح العريس بعد أن تجوّل في أنحاء السوق للبحث عمّا يرضي خطيبته.
ويقول:" وبمجرد دخول العروس وقبل أن تلقي أية نظرة على موجودات المحل، قالت "هذا كل ما عندك"، فأجبتها لو أعطيتِ كلّ قطعة ذهب ثانية واحدة لاستغرقت وقتا طويلا"، وردّ العريس "ينصر دينك" وأخذ بيد والدته وانصرفا من المحل".
اختفاء المشاكل بين العروسين أثناء شراء الذهب يقابله نمو نوع آخر من المشاكل، وفق العمري، الذي يبيّن أن العروس تأتي بعد شهر أو شهرين من زفافها لبيع ذهبها نظراً لانفصالها عن الزوج أو بسبب الظروف المادية الصعبة التي يعيشها شعبنا، منوّها إلى أنهم كصاغة باتوا يتنبئون بالأشخاص الذين ستنجح علاقتهم؛ بالاعتماد على سلوك الطرفين أثناء تواجدهم في المحل.
سمعة طيبة
وبداية السوق تحكي لك قصة عراقته بعد أن تأخذك ستة محلات اصطفت بجانب بعضها عن قصة توارث أصحابها لهذه المهنة، واستقطبت المحلات الستة فيما بعد عاشقي المهنة ليزيد عددها إلى ما نراه عليه اليوم.
ويستقطب سوق الصاغة زبائنه من مختلف مناطق القطاع بعد أن بني معهم سمعة طيّبة، كونه يعرض أشكالا مختلفة من المجوهرات، والثقة التي بناها أصحاب هذا السوق مع زبائنهم وجودة الذهب وجمال تشكيلاته هي ما دفعت محمد لقطع مسافات ليؤمّن ما يحتاجه من مصاغ ذهبي لخطيبته.
العشريني محمد عبد الحميد الذي حضر برفقة خطيبته ووالدتها لشراء الذهب لإتمام حفل الزفاف يؤكد على أنه قدم من شمال غزة خصّيصاً لشراء الذهب من محلات سوق الصاغة في غزة، كون والدة خطيبته اشترت شبكة زفافها من هذا السوق قبل ثلاثين عاما.
للذهب أنواع وماركات
بدورنا انتقلنا إلى محل مجوهرات آخر للتعرف على أنواع الذهب فقال الحاج أبو محمد صافي :" الذهب له أربع عيارات وهي عيار 18 و 21 و 22 و 24 وغيرها كثير ولكن هذا المشهور"، موضحا أن الذهب من عيار 24 معروف عالميا أنه ذهب صافي.
وفيما يتعلق بذهب عيار 18 فأشار إلى أنه ذهب مخلوط معه فضه أو نحاس أو زنك، بمعني أن نسبه الذهب فيه 75% والمواد الإضافية هي 25%، مؤكدا على أن أفضل العيارات هي 18و 21 لأنها تتحمل الضربات ولها شكل جذاب، مضيفاً:" هو في الأساس ذهب أصفر ولكنه مطلي بمادة تسمى براديوم تختفي مع الوقت "، لافتا إلى أن الذهب الأبيض يأتي في عيارين فقط أغلبها 18 وأحيانا 21".
وجودنا كالشجرة
ومع مرور عقود طويلة مع المهنة يرفض أصحاب السوق، ورغم تعدّد فروع محلاتهم في مناطق أخرى من قطاع غزة، مغادرة المكان الذي تربطهم به علاقة عشق ممتدة.
إلى ذلك يؤكد البائع العمري الذي امتهنت عائلته المهنة منذ خمسين عاماً، أنه لا يستطيع مغادرة هذا المكان، مرجعا ذلك إلى أن كثرة الناس وأزمة السير وأصوات "الزوامير" باتت جزءا من حياته اليومية التي لا يستطيع فراقها، قائلاً:" وجودنا في وسط البلد كالشجرة التي إذا تم خلعها لن تثمر في مكان آخر".
في حين يرى صاحب أحد المحلات الذي فضّل عدم ذكر اسمه أنه وبالرغم من تعدد فروع المحل، إلا أنه لا يمكن أن يبرح مكانه وسط القطاع، معتبراً محله في سوق الصاغة "هو أصلي الذي لا يمكن أن أنفك عنه".
ويقول "رغم أن الكبر غزا جسدي وأصبحت معه غير قادر على مزاولة المهنة كما في السابق، إلا أنني لا استطيع أن يمرّ يوم من دون النزول إلى السوق أو رؤية زبائني".
أوقات قليلة أمضيناها بضيافة أصحاب محلات المجوهرات في سوق الصاغة وسط غزة كانت كفيلة بأن تبني "الرسالة" علاقات حميمة معهم، موصلين رسالة للقراء عبر الرسالة بأنهم الأجدر بالثقة والجدارة في صناعة أشكال منوعة من المجوهرات خصوصا للعرسان.