ما جرى بحق نواب حماس في بلغاريا يعيد التذكير بالبدهيات والمسلمات التي تحكم الموقف السياسي الأوروبي القائم على لغة المصالح المجردة بعيدا عن القيم الأخلاقية والمبادئ الديمقراطية.
حين غادر النواب إلى بلغاريا كانوا يدركون حقيقة الموقف الأوروبي الرسمي الذي لم يتغير تجاه حماس، ويدركون أن ثمة عوائق كبرى تنتصب في الطريق، وأن (إسرائيل) لن تصمت على محاولة دق جدار الخزان الذي أرهقت ذاتها في تشييده طيلة العقود الماضية.
أهداف الزيارة لا ترتقي إلى مستوى التأثير على الموقف الأوروبي الرسمي، فهذا أمر له ميدانه الخاص ولغته المعروفة "المصالح" التي أسقطتها الدول العربية والإسلامية عن قاموس معاملاتها السياسية عن بلاهة وغباء وانكسار.
أهداف الزيارة كانت أكثر تواضعا كونها تعالج الرؤى الخاصة بالنخب السياسية والمجتمعية هناك، لكنها بالتأكيد لازمة ثابتة ومقدمة هامة على طريق تغيير الموقف الأوروبي الرسمي خلال المرحلة القادمة.
مواجهة الرواية (الإسرائيلية) المهيمنة على الساحة الأوروبية تقع ضمن أبرز أهداف الزيارة، وهي مهمة ثقيلة بلا شك، لكن ترك حبل الساحة الأوروبية على الغارب لرواية الاحتلال مهمة أكثر ثقلا وخطورة بكل المقاييس.
الخشية (الإسرائيلية) حيال الزيارة أوضح ما تكون، فقد دأبت (إسرائيل) على تصدير رواياتها المختلفة حول المسألة الفلسطينية دون أي صدّ أو اعتراض، وتمكنت من غزو العقل السياسي والمجتمعي الأوروبي بشكل سلس ومن طرف واحد إبان المراحل الزمنية الماضية.
وهكذا، فإن أي مزاحمة أو تفنيد للرواية (الإسرائيلية) المضللة من شأنه أن يفقدها ميزة الفرادة والبعد عن المنافسة الإعلامية، ويجعل قدرتها على تسويق فجورها وإجرامها وأباطيلها أكثر صعوبة من أي وقت مضى.
إحداث نقب في الجدار الإعلامي السميك الذي دشنته(إسرائيل) يشكل نقطة البداية والخطوة الأولى على طريق المواجهة الإعلامية للرواية (الإسرائيلية) على الساحة الأوروبية، وبدون ذلك سوف تبقى الرواية (الإسرائيلية) "تغرد" وحيدة في الفضاء الأوروبي الفسيح.
السلوك الطارئ على موقف الحكومة البلغارية التي كبحت استمرار زيارة النواب أسهم في خدمة الموقف الفلسطيني من حيث لم تحتسب الحكومة البلغارية ووزير خارجيتها ذو الأصول الصهيونية الذي وقف خلف ترحيل النواب، ومن حيث لم تتوقع (إسرائيل) والاتحاد الأوروبي.
لقد أحدث ترحيل النواب، وتعمد إهانتهم والتعامل الهمجي معهم رغم حصانتهم البرلمانية بما لا ينسجم مع أبسط التقاليد السياسية وقواعد اللياقة الدبلوماسية، ضجة إعلامية كبرى فلسطينيا وعربيا ودوليا، وأثمر عن تداعيات هامة تمثلت في استقالة نائب رئيس الوزراء ووزير المالية البلغاريين على خلفية خلافات داخل الحكومة ناجمة عن موقفها الذي تماهى مع الموقف (الإسرائيلي) وموقف الاتحاد الأوروبي الرسمي على حساب كرامتها الوطنية وقيمها ومبادئها القانونية والديمقراطية.
ربّ ضارة نافعة كما يقولون، فقد حصدت حماس من وراء الحماقة البلغارية مكاسب إعلامية هامة تجاوزت كثيرا ما كانت ستحصده فيما لو مضت الزيارة ضمن مخططها المرسوم، وحركت المياه السياسية الراكدة، بشكل أو بآخر، على الساحة الأوروبية الداخلية.
اليوم، من واجب حماس وكل الغيورين وأنصار القضية الفلسطينية أن يبنوا على تداعيات الزيارة، وأن يرسموا خطة منهجية جديدة لتحدي ومواجهة الموقف (الإسرائيلي) أوروبيا.