بدت أشبه بساحة مواجهة بين مؤيد معارض ومنتقد على ساحات "الإنترنت"، والسبب قطعة من القماش سداسية الشكل يرتديها القادة والسياسيون والدبلوماسيون؛ لتضفي عليهم نوعا من الأناقة غابت عن عنق شخصية سياسية كان يرتديها عندما صعد إلى الحكم.
قطعة القماش المتنازع عليها كانت هي "الكرافة" التي تسمى باللغة العربية "ربطة عنق"، والحاكم الذي نزعها هو "إسماعيل هنية" بعد أن أدى اليمين الدستورية رئيسا للحكومة في "السلطة الفلسطينية" حين كُلف بتشكيها من الرئيس "محمود عباس" عقب فوز "حماس" صاحبة الأيديولوجيا الإسلامية في انتخابات المجلس التشريعي.
هنية امتنع عن ارتدائها بعدما أمضى أكثر من عام على مقعد رئاسة الحكومة، وظل بعيدا عن الانتقاد إلى حين زيارته "إيران" عقب اندلاع "الثورة السورية"، وعندئذ بدأت المواجهة: شبان يكتبون على الإنترنت: "نرى قادة حماس (مشعل وهنية) لا يرتدون "الكرافات" كما الإيرانيين"، وأيضا: "ارتمى هنية في أحضان "الفرس" بل حمل مبادئهم حتى في تقليد لباسهم".
وجاء الرد سريعا من المناهضين للرأي السابق: "أعتقد أنه من السذاجة اتهام قادة حماس بالتشبه بالإيرانيين حين لا يلبسون "الكرافات"، فهذه نظرة سطحية وغير صحيحة"، وجاء أيضا: "أصبحوا يلبسونها قليلا لأنها أصبحت من مظاهر الرفاهية خصوصا أن الشعب الفلسطيني لا يزال يقاوم الاحتلال"، وأيضا: "هذا كلام معيب بحق حماس المجاهدة وحق المجاهد إسماعيل هنية".
ويرجع تاريخ "الكرافات" وفق "ويكيبيديا" إلى بدايات القرن السادس عشر حين استخدمها الجنود الكرواتيون بالتحديد بالطريقة نفسها التي تلف بها ربطة العنق اليوم، أما عن أصل كلمة كرافات" فهي كلمة محرفة ومشتقة من الكلمة "كروات"، وكانت وقتئذ الحرب شديدة وعنيفة لدرجة أن طريقة إعدام الجنود الكرواتيين كانت بتعليقهم بربطات العنق التي يرتدونها، ومن هنا جاء أصل الكلمة الإنجليزية "نيك تاي" التي تعني بالعربية: "ربطة عنق".
فهي -ربطة العنق- وإن كانت قادمة من الغرب فإنها دخلت في عادة مسلمين كثيرين وغيرهم حتى أصبحت عادة للجميع لا خصوصية فيها لأحد، ولكنها أحدثت نوعا من الخلاف الشرعي في عالمنا الإسلامي حول لبسها بين من "أجازها" في حال كان الغرض "التزين"، وبين من "أنكرها" وأفتى "بحرمة لباسها".
ولم تكن إيران "الدولة الشيعية" هي الوحيدة التي تخلى حكامها الذين وصولوا الحكم بعد "ثورة الخميني" عن "الكرافات"، فالرئيس الكوبي "كاسترو" لم يلبسها إلا بعدما أصبح كهلا، وقادة كوريا الشمالية لا يزالون دونها، أما قادة الصين فاستمروا دونها إلى حين اطمئنانهم على أوضاع بلادهم العسكرية والاقتصادية، وأيضا الزعيم الفلسطيني الراحل "ياسر عرفات" الملقب بـ"الختيار" بقي إلى حين وفاته يرتدي اللباس العسكري والكوفية الفلسطينية.
اللباس الرسمي و"الكرافات" تحمل معان ودلالات سياسية، فهي ترمز إلى "الاستقرار"، ورسمية التعامل في ردهات العمل الدبلوماسي، أما اللباس غير الرسمي فيرمز إلى "الاستنفار" و"الاستعداد" المستمر للبقاء في الميدان، "أي إن قيادة الثوار التي تواجه عدوانا أو تخوض حربا تتجرد من اللباس الرسمي"، وفق ما يرى الكاتب عبد الستار قاسم.
وبرزت في عصر ما بات يعرف باسم "ثورات الربيع العربي" زعامات "متحررة من الكرافات"، ومن هؤلاء رئيس الحكومة التونسية "الجبالي"، ورئيس الحكومة المغربي "بن كيران" الذي ارتداها يوم أن أدى اليمين الدستورية فقط، ورئيس المجلس العسكري في ليبيا، وجميعهم يربطهم النهج الإسلامي.
ولم يعد هذا الأمر مقتصرا على الزعامات الإسلامية فحسب بل غابت هذه "القماشة" من على عنق الرئيس التونسي "المنصف المرزوقي" ذي الاتجاه "اليساري" الذي جاء بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس "المخلوع" "بن علي"، فرأى المرزوقي في "الكرافات" تقليدا إفرنجيا "غير مستساغ".
أسباب عديدة جعلت قيادة حماس تمتنع عن لبس "الكرافات" منها وجود خلاف شرعي بين أهل العلم في هذا اللباس، والثاني أن "حماس" حركة تحرر وطني لذلك فإن هذا اللباس لا يتناسب ونهجها بصفتها حركة "مقاومة"، والثالث فيه دلالة نفسية للشعب وهي أنها تجعلهم بتركها أكثر تواضعا وقربا من الناس، وهذا ما أفاد به "مصدر خاص في مكتب نائب رئيس المكتب السياسي لحماس".
والدافع الثوري طبقا لمصدر مقرب من "هنية" هو السبب الوحيد الذي جعل منه يمتنع عن لباسها، فهي لا تتناسب مع منصبه ولاسيما أنه يقود شعبا فلسطينيا يقاوم الاحتلال.
المحلل إبراهيم المدهون يرى بدوره أن للباس مدلولا كبيرا، "فهو يعطي انطباعا لدى الجمهور (...) ربطة العنق ميزة في اللباس الغربي الرسمي، وبقوة الحضارة الغربية التي أثرت على الثقافات الأخرى أصبحت لباسا عالميا تجده في الشرق والغرب والشرق الأوسط والعالم الإسلامي".
وثمن المدهون تصرف هنية، "لأنه يحافظ على صورة المشهد الثوري في الأذهان".
لبس "ربطة العنق" أو تركها لم يعد حكرا على تيار أو جماعة، ففي الوقت الذي خلعها بعض الزعماء من الإسلاميين نجد فيه أن عددا منهم لا يزال يرتديها كـ"مرسي" و"أردوغان"، وكذلك في اليسار.
ويبدو أن لباس الزعامات غدَا اليوم نوعا من الحرية، فلا يوجد لباس معين يفرض على الزعماء ارتداؤه.
لكن: ما دام عدد الزعماء ممن تركوها آخذ بالزيادة فهل ستنتهي "موضة الكرافات" من على رقاب الزعامات العربية والإسلامية ولاسيما أن بلادها لا تزال في حالة نمو وتواجه كثيرا من التحديات؟.. الزمان وحده كفيل بالإجابة.