بيت في غزة يروي حكايته

بقلم: ألباب شلش

نارٌ وغبار..وحطامُ دمار، سوادٌ كثيفٌ أحاطني كالأسوار، حُرقَ الزيتون وفَزع الحسون..وتلاشى الصبّار، ما عدتُ أرى إلا أشعة لمياء تشقّ طريقها عبر نافذة كساها الغبار، ما عدت أدرك سوى آهات أخضعها الظلم بجَوْره فطمس الأنوار. خفت ضوء القمر على ريف الفقراء، ولاح الدخان، ساعات من غير عقارب، صارت بيت عناكب، لوحدي منتصب بين القشّ الأصفر، أرمق الكون الأسمر،  ستناجيكم حجارتي بما هو أدهى وأمرّ..

جنّ ذاك الليل، نهض محمّد إلى سجادة الصلاة متوضئا مبادرا للقيام، داعيا الله مستغفرا بالأسحار، يرجو رضى ربه لينضم لكوكبة الأبرار، لا أنسَ حجرة أم محمد كانت تعجّ بالاستغفار، وعيون أطفالها قد نامت بعد طول انتظار.

صخرٌ ورصاص..وخطى قناص سارع قلبي بالخفقان، واشتعل قلقي بالنيران، اهتزت اشجار تربتي والبستان، رجال غلاظ شداد طوّقوني بوحشية وأحاطوني بالأسوار، أشاروا ببندقياتهم ونظراتهم إليّ، فنادتهم صرخات الأنين وخاطبتهم شهور السنين :"لا تتحدّ يا عدو .. فلن نفرش دربك بالورود، أما استحَيْت؟ وفيما أتيت؟ سنقاتل مهما عزّ النصر، سنقاتل في الحقّ عنادا، سنضرب بالحق لوجه الحقّ".

سهام الحقد تُغرز في بابي، شعور كنود يولدُ في محرابي، أوّهني بكاء أحبابي، أفاقوا على دويّ رصاصات الاحتلال، طعنوا جلّ كرامتنا بقيود الانحلال، سيطروا على تراب أمّنا، وعلى دروب أمننا، لدغوا حرّيتنا، لسعوا استقرارنا، حطّموا وحماقتهم بيوت الحجارة وكروم العنب، إلى أن باتت آمالنا المعقودة غطاءً لنا، وأحلام العودة والهناء سقف أرواحنا، انتشر السواد بحلكته بين أثير قريتي فتعكّر هواؤها وازداد ماؤها، حبال تخنق رقابنا، سلاسل وأغلال.

لكن دماء الشهيد محمّد، ودموع الثكلى أبت أن تُكمل المسير إلا وأن تكون راوية وساقية لبذور النّصر المتعطشة تحت الثرى، فتشبّ شامخة الرأس نحو الغمام الأزهر.

اُعتقِلَت زينة الديار وبقيَ اليتامى تحت رحمة الجبّار، ينتظرون أمهم وينتظرون، لا يملّون ولا يكلّون، فما زالت أفكارهم طفولية بريئة موقنة بأنّ أغنية النوم ستعود، وقبلات الدفء من شفاه الحنون ستعود، ألعابهم تشاركهم أمواج الصمود، لكن.. حلمهم سرعان ما اُخمد بلمسة قاسية، بحفرة بائسة، من أين سيأكلون؟ ويكبرون ليعيشوا ويعتاشوا؟!.

فتحَتْ ريحُ الغرب بابي على مصراعيه، شدّني الأحمر القاني، الدماء تجتاح المكان والأزقة، الأشلاء معلّقة على الجدران، سنردّها لكم يا فئران!.

تجمّعت معزوفات الشرف بفداء أرواح شبابنا الأحرار لساحات فلسطين، برؤية زيتوننا مضمّخا بأحمرنا، فلتعلم يا صهيون أن هناك من يقف في وجهك ويناضل لأجل أخضرنا.

هطل المطر بغزارة، وجلب معه البشارة ليمرّغ أنوفكم بالتراب، أنتم يا من تدّعون الصدق والعدالة، ارتقبوا شمس الحقّ ليلامس ضوؤها خزاياكم ودماء شرايينكم إلى أن تجف عروقكم، وتنهار قواكم..سننتقم وإيّاكم.

رغم هذا وذاك يبقى علم وطني المعلّق على سطحيَ البالي مفتخرا ومعتزا بروحانياته، يحمل رايات الإسلام معطّرة بمسك شهدائنا، مبللة بدموع نسائنا، يرفرف على أوتار الفرحة والزغاريد، يحمل وراءه نسيم بحر حيفا وعكا العذوب المنوط بأروع آيات الانتصار.

البث المباشر