الضفة المحتلة- لمراسلنا الخاص
ما زال الحزنُ يخيمُ على مائتين وسبعين عائلة يحتجز الاحتلال جثامين أبنائها الشهداء رافضاً تسليمها انتقاماً من عملياتهم الاستشهادية داخل فلسطين المحتلة، فحتى بعد أن يقتلهم يحاول أن يزيد الجرحَ فيعذب عائلاتِهم، وهذا التعذيب يحملُ معنىً آخرَ في أجندة عنصريةٍ ترى الموت للفلسطينيين أينما حلوا وأينما ارتحلوا.
وتعد عائلة الاستشهادي إيهاب أبو سليم من قرية رنتيس غرب رام الله واحدةً من مئات العائلات التي لم تتسلم جثمان ابنها حتى الآن، فإيهاب نفذ عمليته في التاسع من أيلول لعام ألفين وثلاثة في الأراضي المحتلة عام ثمانية وأربعين، ومنذ ذلك اليوم تجهد عائلته محاولةً استرداد جثمانه دون فائدة.
ويقول محمد شقيق الشهيد ايهاب لـ "الرسالة" :" قبل عامين أبلغونا أنهم سيسلموننا الجثة, في حين قال لنا محامي العائلة إن جثة إيهاب يجب أن تعاد إلينا لأنه حوكم حكماً عسكرياً، حيث أنه لم يقتل مغتصبين في العملية الفدائية التي نفذها بل كان القتلى كلهم من الجنود، وهذا الأمر يجب أن يشفع له ويعيد لنا جثته"
تتمنى دفنه
ورغم المحاولات المتكررة من عائلة إيهاب لاسترداد جثمانه وإكرامه بدفنه في مقبرة القرية أسوة بجميع الشهداء، إلا أن الاحتلال يحاول تعذيب أهله بجرعات متزايدة، فقبل سنوات هدم منزلَهم المتواضعَ وشرّدهم انتقاماً، واليوم يحتجز جثمان ولدهم ويؤلم أرواحهم، فالأم الثكلى لا تجد سوى الدموع والأب الصابر وكّل أمره لخالقه.
ويقول محمد إن أمه تواصل البكاء مع مرور ذكرى استشهاد إيهاب والأعياد والمناسبات التي كان يمضيها معهم, موضحاً أن صورة الشهيد معلقة على جدران غرفتها رافضة إزالتها، كما تتمنى دوماً أن يتم دفن جسد ابنها في مقبرة القرية كي تزور قبره عند كل لحظة اشتياق.
وفي خطوة استفزازية من سلطات الاحتلال، قام عدة مرات بإبلاغ عائلة الاستشهادي إيهاب نيته تسليم جثة ابنهم، فلم يكن منهم إلا تجهيز بيت العزاء عدة مرات وتحضير كفن الشهيد وجمع أهل القرية استعداداً لتشييعه ودفنه، ولكن احتلالاً عُرف عنه الإخلاف بوعوده لم يطبق أقواله أبداً، فعادت العائلة عدة مرات محزونة إلى بيتها دون أن تنعم بتوديع جسد ابنها.
عرضة لنهش الحيوانات
تلك العائلة التي ما زالت تفقد جزءاً منها وفق مزاج احتلال لا يرحم، ليست الوحيدة كذلك، فمئات العائلات الفلسطينية تشاطرها الحزن ولوعة فراق الابن الشهيد.
وحسب مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان فإن المئة والسبعين اسماً هي لشهداء ومفقودين، منهم من اختفت آثارهم بعد حرب عام سبعة وستين، ولكنّ تسعين بالمئة منهم هي جثامين شهداء احتجزهم الاحتلال منذ بداية انتفاضة الأقصى، وقد شُكلت لجنة وطنية عليا من ذوي الشهداء والمفقودين للمطالبة بالكشف عن مصيرهم واسترداد جثامينهم.
وحتى الآن لم يتم الكشف إلا عن عدد قليل من تلك المقابر، حيث عرفت منها مقبرة الأرقام بجانب جسر بنات يعقوب والتي تضم أكثر من 500 جثة لفلسطينيين وعرب استشهدوا خلال حرب لبنان الأولى، ومقبرة الأرقام في منطقة غزر الأردن بين أريحا وجسر دامية والتي تضم 100 شهيد، ومقبرة تقع شمال مدينة طبريا المحتلة بجانب قرية وادي الحمام وتضم 50 شهيداً.
وتؤكد مصادر فلسطينية أن احتجاز جثامين الشهداء لا يقتصر على منفذي العمليات الاستشهادية ضد الاحتلال أو من استشهدوا خلال اشتباكات مسلحة، بل تحتجز جثامين عدد من الشهداء الذين اغتالتهم وحداته الخاصة كالشهيدين القساميين عماد وعادل عوض الله من مدينة رام الله، أو ممن توفوا في سجون الاحتلال، وتلك الجثث تُحتجز في ثلاجات أوفي مقابر سرية تقع في مناطق عسكرية مغلقة ويمنع زيارتها أو الاقتراب منها أو حتى تصويرها.
ومما لا شك فيه أن هذه المقابر تزدحم بعشرات الأضرحة، وهي عبارة عن مدافن بسيطة أحيطت بالحجارة بدون شواهد، ومثبت فوقها لوحات معدنية تحمل أرقاماً بعضها تلاشى بشكل كامل، وهي غير معدة بشكل ديني وإنساني، إذ أن كل شهيد يحمل رقماً معيناً، ولذا سُميت بمقابر الأرقام، ولكل رقم ملف خاص يحتفظ به الاحتلال ويشمل المعلومات والبيانات الخاصة بكل شهيد، وتلك المقابر تضم أرشيفاً طويلاً وتتسع للمزيد وقابلة للتوسع.
ويلجأ الاحتلال إلى العديد من المبررات لمواصلة احتجاز الجثامين، فتارة يدعي بأنه يحتجزها إلى حين الانتهاء من تشخيصها، وتارة أخرى للفحص، بالرغم من أن التشخيص والفحص لا يتطلبان احتجاز الجثامين لسنوات عدة.
وحتى في طريقته بدفن الجثث يحاول الاحتلال أن ينتقم من الفلسطينيين، فمقابر الأرقام مساحات سرية يُدفن فيها الشهيدُ على عمق متر ونصف فقط حتى يكون عرضة لنهش الكلاب والحيوانات الضالة والنسور الجائعة.. سياسة عنصرية بحتة لن يحصد منها سوى مزيدٍ من الغضب الفلسطيني.