بينما يكثف جهاز الدفاع المدني التابع لوزارة الداخلية بقطاع غزة حملته ضد المباني والمنشآت السكنية غير المستوفية شروط الأمن والسلامة، حاز سكان برج القدس في مدينة غزة قرار محكمة يجبر مالك البرج على تطبيق الشروط المفقودة والمتمثلة في توفير سلم طوارئ وإطفائيات للحرائق.
سكان البرج الذي شهد عددا من الحرائق في وقت سابق قالوا إن مالكه لم ينفذ قرار المحكمة حتى الآن، لذلك فهم سيستمرون في متابعة الإجراءات القضائية إلى حين الحصول على حقوقهم.
تلك الحقوق التي يلهث سكان "القدس" خلفها هي حاجة أيضا لمئات من المواطنين القاطنين في عشرات الأبراج والمنشآت السكنية الأخرى داخل قطاع غزة، ولكن سكانها لم يرفعوا دعاوى قضائية ضد المستثمرين، علما أن غيابها تهديد خطير على حياتهم.
القضية ليست دعوة إلى سكان "الأبراج" من أجل رفع دعوى قضائية على المستثمرين الذين لم يوفروا لمنشآتهم متطلبات السلامة والأمان بقدر ما نحن بصدد البحث في هذا التحقيق عن السبب الكامن وراء غياب عوامل الأمان، وكيفية منح التراخيص لإقامة المنشآت السكنية بعيدا عن شهادة الدفاع المدني.
تراخيص دون اعتماد
لا يختلف المقيم أو الوافد إلى غزة على أن القطاع خلال السنوات الثلاثة الأخيرة شهد طفرة عمرانية تزايد فيها عدد المنشآت كثيرا، فقد بلغ عدد التراخيص الممنوحة للبناء في مدينة غزة وحدها العام الماضي (2012م) حوالي 2774 مبنى، في حين شهد العام الحالي حتى شهر مارس ترخيص حوالي 980 مبنى، وذلك وفق إحصائية حصلنا على نسخ عنها أعدتها دائرة التنظيم والتخطيط الحضري في بلدية غزة.
"مواطنون: نشعر بالخوف على أرواحنا جراء فقدانها
"
تلك المباني التي منحتها البلدية التراخيص لم تحز شهادات اعتماد من جهاز الدفاع المدني بمقتضى ما قاله القائمون على الجهاز، وذلك في تجاوز لمواد القانون التي نصت في المادة الثالثة من لائحة شروط السلامة والوقاية في المباني العالية والمنشآت العامة والخاصة على أنه "لا يجوز مباشرة الأعمال الإنشائية قبل الحصول على تصريح مبدئي من المديرية العامة للدفاع المدني".
"لولا الخشية على الأرواح لما استشعر المواطنون قيمة أدوات السلامة"، هذا ما أكده المواطن أبو أحمد الهور رئيس مجلس إدارة برج القدس المكون من 14 طابقا الذي أضاف: "استشعارهم الخطر الشديد على أرواحهم دفعهم إلى رفع قضية على المستثمر (مالك البرج)".
وقال الهور المكلف من سكان البرج في متابعة القضية: "هناك أكثر من حريق نشب في البرج نجى منه السكان بأعجوبة"، مشيرا إلى حريق اندلع في "طبلون" الكهرباء عام 1998 دفع بالسكان إلى الخروج من شققهم والتوافد أسفل البرج، "ما كشف عن الحاجة الماسة إلى سلالم طوارئ إضافة إلى فقدان الإطفائيات".
واشتملت الدعوى التي تقدم بها سكان البرج على سبعة عشر بندا ناقصا من متطلبات السلامة والأمان إضافة إلى غياب حقوق الملاك، ولكن قرار المحكمة ألزم مالك البرج بتركيب سلالم طوارئ وإطفائيات حرائق ومولد كهربائي فحسب، بمعنى أن القرار شمل ثلاثة نواقص من أصل سبعة عشر.
ويقول الهور إن القرار الصادر في أواخر فبراير الماضي لا يزال معلقا رغم أنهم توجهوا بشكوى إلى الدفاع المدني، مبينا أن آخر حريق شهده البرج كان في يوليو الماضي، "الأمر الذي دفع بالسكان نحو التعاون وشراء إطفائيات على حسابهم الشخصي للمساعدة في إخماد الحرائق"، كما قال.
وبلغ عدد الحرائق التي أصابت الشقق السكنية العام الماضي 82 حريقا، وفق إحصاءات حصلنا على نسخة منها وتعامل معها الدفاع المدني.
مدير دائرة الإنقاذ في جهاز الدفاع المدني في غزة الرائد جمال سحويل أشار بدوره إلى أن غياب شروط السلامة والأمان عائد إلى تجاوز البلديات دور جهاز الدفاع المدني في منحها الرخص للمنشآت السكنية، وقال: "تشخيصي المشكلة أنها خطأ اداري (...) ممنوع إعطاء رخصة دون موافقة الدفاع المدني علما أن الترخيص يجب أن تجدد دوريا حتى نضمن سلامة الناس".
"الدفاع المدني: المشكلة ناتجة عن تجاوز البلديات دورَنا
"
وأضاف سحويل: "لدينا قانون، ولكن المشكلة الأساسية أنه لا يوجد تنسيق بين البلديات وجهاز الدفاع المدني (...) المشكلة العظيمة أن المستثمر يأتي لاستصدار رخصة من طرفنا بعد أن يكتمل البناء، وهذا ما يسبب خللا خاصة في موضوع سلالم الهروب وصعوبة تركيب خطوط إطفاء داخل الجدران".
تآكل.. ومخازن
"الرسالة" استطلعت بدورها عددا من المنشآت السكنية في غزة يزيد ارتفاعها على 16 مترا، فوجدت أن معظمها لا يحوي سلالم الطوارئ فضلا على أنه لا توجد "إطفائيات حرائق"، في حين أن السلالم المتوافرة في عدد قليل منها كانت متآكلة بفعل الصدأ، ولم يطرأ عليها أعمال صيانة، وهناك أخرى استغلها السكان مخزنا لأدواتهم المنزلية.
وبدا نموذج ما يسمى "التصريح المبدئي للسلامة والوقاية في المباني العالية" الذي نص على تركيب "وقافات" حريق داخلية وخارجية، وخزانات مياه، وسلالم طوارئ، وأجهزة أطفاء يدوية وأتوماتيكية، وإنذار مبكر وغيرها، ورقة لا قيمة لها على ضوء اختفاء الالتزام بأي من شروطها.
وفي واقعة جديدة لمواطنين تعرضت أرواحهم للخطر، فإنه تبين أن عناية الله أولا ثم خروج السكان مبكرا من البناية وراء النجاة من قصف استهدف الدور الثالث من المبنى المكون من سبعة أدوار.
وقال أبو عادل أحد سكان البناية المستهدفة خلال حرب "الرصاص المصبوب" 2008/2009: "لو لم يتدارك السكان أنفسهم ونزحوا عن البناية قبل القصف لكان عدد كبير منهم أصبح في عداد الموتى نظرا إلى أنه لا توجد سلالم طوارئ".
وأشار إلى أن البناية التي يقطنها وتحوي مكاتب خاصة "لا يوجد فيها إطفائية واحدة تقي انتشار الحرائق".
سحويل اتهم في هذا السياق المستثمرين بقلة المبالاة بأرواح الناس، "لأن الهم الأكبر بالنسبة إليهم بيع الشقق"، كما قال.
وتابع: "قدمنا توصيات ومقترحات بضرورة تنفيذ الشروط بصرامة لضمان سلامة المواطنين وأرواحهم خاصة أن الحد الأدنى المتوافر من شروط السلامة في المباني 10% فقط"، مشددا على ضرورة أن يحصل المستثمرون أو ملاك المباني على شهادات "بدء بناء" من أجل متابعة شروط السلامة خطوة بخطوة.
وأوضح مدير دائرة الإنقاذ أن الشروط لم تكن "تعجيزية" بالنسبة إلى المستثمرين، "لكنهم يتجاوزونها"، مبينا أن ضعف إمكاناتهم لا يسمح بالتفتيش عن كل المنشآت المخالفة، "لأنه لا يوجد في دائرة السلامة إلا سيارة واحدة مطالبة بالتفتيش في مناطق القطاع كافة".
واعتبر سحويل أن القصور ناجم عن أنه لا يوجد قرار صارم وقاطع بحق المخالفين، مشددا على أهمية صدور قرارات بمنع البناء أو بيع الشقق في المنشآت المخالفة "لضمان تنفيذ شروط السلامة والأمان".
لا يجب وجود سلالم
في المقابل، فإن "أبو أحمد" وهو أحد المستثمرين في قطاع الإنشاءات قال: "الحصول على رخصة لبناء مبنى من خمسة طوابق بالإضافة إلى سدة وروف أمر لا يوجب إقامة سلالم طوارئ أو ما شابه".
وأوضح أبو أحمد أن البلديات التي تمنح التراخيص لا تشترط هذا الأمر "على اعتبار أنه لم يرتق إلى ارتفاع الأبراج السكنية"، مؤكدا أنه في حال أصبح اعتماد شروط السلامة والأمان في العمارات السكنية إلزاميا فإنه لن يتوانى عن تطبيقها، وفق قوله.
وتعرف المباني العالية في اللوائح المنظمة لقانون الدفاع المدني رقم (3) لسنة (1998) بأنها "كل مبنى يزيد ارتفاعه على مستوى سطح الأرض بأطول من ستة عشر مترا ويشتمل على أكثر من خمسة طوابق فوق سطح الأرض".
وعمليا، المنشأة المتعددة الطوابق في قطاع غزة تتكون من سدة وخمسة أدوار و"روف" لتصبح فعليا مكونة من 8 أدوار، علما أنها تحصل على الترخيص دون إحضار شهادة من الدفاع المدني، ما يعني فقدانها شروط السلامة والأمان.
وتفسيرا لهذه المفارقة، قال وائل لولو مدير دائرة السلامة والأمان في الدفاع المدني في غزة: "المسألة خلافية بين الدفاع المدني والبلدية، فوفق قانون الدفاع المدني كل مبنى يتكون من أرضي وأربعة طوابق فما فوق (يزيد على 16 مترا) يجب أن تطبق عليه شروط السلامة والوقاية، ولكن حدثت بعض التغييرات من البلديات بخصوص الارتفاعات، فأصبحت تصنف المباني إثرها إلى سكنية وتجارية".
وأكد لولو أن ارتفاعات بعض المباني بلغت حوالي 22 مترا دون مراجعة الدفاع المدني أو إصدار رخصة، معبرا عن امتعاضه اتجاه الإجراء الذي تتخذه البلديات والمتعلق بمنح التراخيص دون الرجوع إليهم بصفتهم جهة اختصاص.
وأجاب عن سؤال وجه إليه: من يتحمل المسؤولية؟، قائلا: "لا أدري.. نحن لا نمنح رخصا، فالبلديات هي التي تصدرها، ونحن نعطي تصريحا مبدئيا بالبدء، ولكن يجب أن يأخذ به".
وأضاف لولو: "كل الأبراج العالية التي تزيد على ثمانية طوابق يجري مراسلتنا بشأنها حتى نعاينها لإعطاء موقف منها، ولكننا لا نراجع بشأن العمارات".
سكني.. وتجاري
مدير دائرة التنظيم والتخطيط الحضري في بلدية غزة مؤنس فارس جزّأ من ناحيته المباني إلى قسمين، "سكنية مقامة على شوارع سكنية وتتكون من دور أرضي بالإضافة إلى خمسة طوابق وروف مقام على نحو 60% من مساحة السطح الأخير ومساحة مخصصة لخدمات السكان، وأخرى تجارية مقامة على شارع تجاري وتتكون من دور أرضي بالإضافة إلى سدة وخمس طوابق وروف"، مؤكدا أن من بين الشروط الواجب توافرها لمنح ترخيص البرج أن تزيد مساحته على 1000 متر مربع، "وأن يكون على شارع تجاري بحدود 16 مترا أو أكثر".
وردا على سؤال: "لماذا لم تطلبوا شهادة الدفاع المدني من أجل منح التراخيص للمباني؟"، قال: "وفق النظام الموجود لدينا فإننا نستعين بشهادة الدفاع المدني في المباني العالية ذات الطوابق المتعددة".
"بلدية غزة: الدفاع المدني مقصر ومطالب بتضمين الشروط في النظام العام
"
واستعرض مؤنس إجراءات المستثمرين في الحصول على رخصة، "فتبدأ بتقديم معاملة بيان شروط تنظيمية مرورا بالتدقيق القانوني والهندسي وصولا إلى الشروع في البناء والتنفيذ"، ولكنه لم يذكر فيها شهادة الدفاع المدني.
وتبين خلال تحقيق "الرسالة" أن اللجنة المركزية الحكومية (تعتبر البلديات والدفاع المدني من أعضائها) قد فصلت في قراراها رقم (19) جلسة رقم (23) بتاريخ 20-نوفبمر 2011 في الخلاف بين الدفاع المدني والبلديات المتعلق بارتفاع الماني وتصنيفها.
وجاء في القرار الرسمي الذي حصلت "الرسالة" على نسخة عنه وحمل عنوان "إضافة طابق خامس في مباني القائمة الجديدة-غزة" أن اللجنة قررت السماح بإضافة طابق خامس للمباني السكنية القائمة والجديدة والمحاور التجارية بالشروط التالية:
* تكون المباني السكنية: أرض+ خمس طوابق بحد أقصى 20م.
* تكون المباني في المحاور التجارية: أرض + سدة+ خمس طوابق، وبحد أقصى 23م.
* ضرورة الالتزام بالارتدادات التنظيمية وفق النظام المعتمد للمنطقة.
* ضرورة توفير شهادة تحمل للمباني القائمة معتمدة من نقابة المهندسين.
* ضرورة توفير نظام لتجميع مياه الأمطار وحقن المياه بالتنسيق مع البلدية.
* يكون رسوم البناء للدور الخامس طبقا لنظام رسوم البناء المعتمد من اللجنة المركزية.
اعتراض
ويعلق فارس على هذا القرار بالقول: "نحن جهة تنفيذية وفقا لهذا النظام، وما دام أن هناك اعتراضا من جهاز الدفاع المدني فلماذا لم يسجل لدى اللجنة المركزية التي هو عضو فيها؟".
وأكمل حديثه: "خلال ورشة عمل عقدت قبل ثلاثة أشهر لعدد من الوزرات والبلديات بحضور الدفاع المدني اتفقنا على تضمين ملاحظات الأخير ضمن قائمة الشروط الواجب توافرها في المنشآت من أجل منح التراخيص، ومنها سلالم الطوارئ وشبكات الإطفاء وخزنات المياه وغرفة للكهرباء ومولد مع تفضيل وجود ملجأ في العمارة".
وأكد فارس أن الورشة اختتمت بالاتفاق على أن يقدم جهاز الدفاع المدني إلى اللجنة المركزية نظاما كاملا "حتى يجري اعتماده ضمن الشروط اللازمة للرخصة ومواصفاتها"، وقال: "لسنا من يقر الأنظمة، ولو أضيفت شروط جديدة فليس لدينا مشكلة في تنفيذها".
وبين تشديد البلدية على أهمية تخصيص جزء من الطابق الأرضي في المباني السكنية لخدمات السكان، لافتا إلى أنه في حال بناء "بدرم للاستخدام كملجأ فإن صاحب الاستثمار يعفى من دفع ثمن رسوم ترخيصه تشجيعا على إنشاء الملاجئ"، كما قال.
وبالنظر إلى عدد المنشآت السكنية التي جرى إقامتها في إطار الاستثمار فإنه تبين أنها تفتقد الفناء المخصص لخدمات السكان إضافة إلى أنه لا توجد غرفة كهرباء في كثير منها.
وعاد فارس إلى توجيه القصور في فقدان شروط السلامة في لوائح التراخيص للمباني السكنية نحو الدفاع المدني، قائلا: "الأخير عضو في اللجنة المركزية ويفترض أن يطالب بتضمين النظام الشروط الخاصة به، إذن فالقصور لديه".
وتبين في دراسة تحليلية أجريت على الأبراج ومدى مطابقتها شروط الأمن والسلامة أن القطاع يحتوي 615 برجا سكنيا وتجاريا مقسمة على: محافظة الشمال 56 برجا، ومحافظة غزة 491، والوسطى 16، وخان يونس 42، ورفح 10 أبراج.
وبينت الدراسة التي أعدها المهندس إياد عبيد أن نسبة الأبراج المرخصة ترخيصا مبدئيا من الدفاع المدني بلغت 21% من العدد الكلي، "في حين بلغت نسبة المرخصة ترخيصا نهائيا 6%، أما نسبة غير المرخصة نهائيا فبلغت 73%".
وأشار عبيد إلى أن نحو 90% من هذه الأبراج أقيمت في عهد السلطة السابقة، "في حين أن كثيرا منها كان مستوفيا أوراقه وخرائطه للترخيص، ولكن هذه الأوراق وضعت داخل أدراج النسيان نتيجة الفساد الذي كان موجودا".
واستعرض المهندس مدى استيفاء المباني اشتراطات الأمن والسلامة، "فـ2.1% من هذه الأبراج مستوفية للاشتراطات اللازمة فقط، في حين أن 17% منها يمكنها استكمال باقي الاشتراطات، أما 81% منها فيصعب استكمال اشتراطات السلامة فيها".
ثلاث خطوات
هنا، يشدد مدير دائرة السلامة والأمان في الدفاع المدني على أنهم يتخذون ثلاث خطوات قانونية ضد مخالفي الشروط، "من بينها استخدام الإنذار الشفوي، ثم الإخطار، وأخيرا محضر ضبط المخالفة"، ولكنه بين أن عددا محدودا يتجاوب مع تلك الإجراءات.
سحويل فسر من جانبه ضعف تجاوب المستثمرين بأنه نابع من ضعف العقوبة التي تصدر بحقهم، وقال: "لا يضير المالك أو المستثمر أن يدفع مبلغ خمسمئة شيكل مخالفة في حال صـدرت بحقـه".
التحقيق السابق يبين أن المسؤولية مشتركة لدى كل من الدفاع المدني والبلديات، ولكن الأهم من ذلك التشخيص أن تضطلع كل جهة بالدور الملقى على عاتقها حتى تضمن سلامة الجمهور، وإلا فسيكون المبرر الوحيد لإعطاء التراخيص دون إلزام معايير الأمن والسلامة هو الاستفادة من الرسوم التي يدفعها المستثمرون فقط.