غزة- محمد أبو قمر- الرسالة نت
يتجول المريض "أحمد" بين غرف مستشفى الطب النفسي بحثا عن سيجارة ، حيث تعكس ملابسه البالية مدى تردي حالته النفسية.
وتختلف قصص وحكايات المرضى النفسيين, فبينما يسيطر على المريض "م.ش" هاجس تجسس أهل بيته عليه لصالح الاحتلال ويترقبون تحركاته للإبلاغ عنه ، يرقد "فايز" في المستشفى منذ أكثر من اثني عشر عاما دون أن يتمكن من الوصول لذويه في الضفة المحتلة.
مراحل المرض
ويعرف الطبيب النفسي الدكتور حسن الخواجا الصحة النفسية على أنها ممارسة الحياة بجودة من الناحية النفسية والاجتماعية والجسدية ، وليس فقط أن يعاني الشخص من عجز أو مرض.
ويعتقد أن المشكلة الكبرى التي يواجهها الأطباء هي عدم معرفة الأهل بالمرض النفسي، وبالتالي يتأخر وصول المريض للمستشفى وتكون حالته قد مرت بمراحل عديدة وتغلغل المرض في المصاب مما يصعب من فرص شفاؤه .
ويقول الخواجا: " المجتمع لديه حساسية من التعامل مع الطب النفسي لأن النظرة الى المستشفى بأنها خاصة "بالمجانين" ، ولذلك تلجأ الأسرة الى الأطباء ومن ثم السحرة والمشعوذين في حال طرأ تغير على سلوك أحد أبنائها ، وفي نهاية المطاف يطرقون أبواب الطب النفسي".
ولا يوجد سبب محدد للمرض النفسي حسب الخواجا ، موضحا أنه عبارة عن تداخل مجموعة عوامل منها وراثية ، أو أن تكون نفسية الشخص لا تتحمل ضغطا كبيرا لفترة طويلة من الزمن ، أو أن تكون علاقاته الاجتماعية شبه معدومة داخل الأسرة والأقارب والأصدقاء وذلك يشكل عامل مخاطرة لان الشبكة الاجتماعية تعد حماية للإنسان يفرغ من خلالها الضغوط.
ويتابع الخواجا: " إذا اجتمعت تلك العوامل بشكل متزامن يظهر المرض النفسي، وأحيانا قد يكون للمصاب شبكة اجتماعية لكنه يتعرض لضغوط كبيرة فينهار".
ويقسم الخواجا الأمراض النفسية لثلاث طبقات منها خلل وظيفي بسيط كاضطرابات القلق والنوم والسيطرة والتحكم والاضطرابات الجنسية ، وجميعها تصنف تحت اضطرابات الاختلال في الأداء الوظيفي والمهني والاجتماعي.
أما المستوى الثاني فيشمل اضطرابات المزاج التي يتبعها اكتئاب شديد وهوس ، ويتطور المستوى الثالث لاضطرابات ذهانية وانفصام العقل.
ويشير الخواجا الى أن المقيمين داخل المستشفى يعانون من اضطرابات ذهانية وانفصام العقل ، موضحا أنها قابلة للعلاج وغير قابلة للشفاء كأمراض الضغط والسكري ،أي يمكن السيطرة على أعراض المرض ويستطيع الإنسان استكمال حياته بشكل طبيعي.
نظرة سلبية
وبينما يتعامل مع الأطباء والعاملين في المستشفى مع المرضى بودية ، تبدو ملامح الخوف على الزوار الذين يترقبون أي اعتداء عليهم من قبل المرضى النفسيين.
ويؤكد الطبيب النفسي أن هناك مفاهيم خاطئة حول المرض النفسي ، مشددا أن المريض ليس عدوانيا، ولكنه يهاجم الأشخاص الذين لديهم ضلالات وشكوك بأنه سيهاجمهم ويؤذيهم ، وربما يكونون أفراد أسرته ، لكنه بطبعه ليس عدوانيا تجاه الآخرين.
ومن بين المفاهيم الخاطئة أن المرض معد وهو ليس كذلك ، كما أن المرض ليس له علاقة بالسحر والشعوذة كما يعتقد الآخرون.
وشدد الدكتور الخواجا على أن المريض النفسي يمكن أن يعمل ويدرس ويتزوج ليس كما يعتقد البعض، لكنه قال: " لم نصل لهذا الحد من التأهيل نظرا لواقع الصحة النفسية المتراجع في غزة".
يعد انفصام الشخصية سرطان الأمراض النفسية، وذلك المرض يظهر نوع من الاختلال لدى المريض يجعله من الصعب التفرقة بين الحقيقة والخيال ، فتظهر لديه أعراض الاكتئاب مما يؤدي لاضطراب في تفكيره وسلوكه وعاطفته ، وبحسب الطبيب النفسي فان ذلك المرض قابل للعلاج وليس للشفاء.
ونفى الخواجا صحة ما يتداوله الناس بأن المريض النفسي لديه شخصيتين.
وتبلغ سعة المستشفى عشرين سريرا للجنسين كما يقول وليد المحلاوي رئيس قسم العلاقات العامة والإعلام بالإدارة العامة للصحة النفسية ، مشيرا الى أن بعض الحالات المرضية تمكث في المستشفى ومن ثم تواظب على المراجعة في العيادات الخارجية.
ويشير المحلاوي الى أن الإقبال على العيادات الخارجية وذلك بسبب نظرة المجتمع السلبية للمرض النفسي الذي يحول دون وصول المرضى للمستشفى خشية من حديث الناس.
وشهدت مستشفى الطب النفسي حالات هروب المرضى ، ويقول المحلاوي " بعض الحالات تكون عدوانية وغير مستوعبة للمرض ، فيعتقد المريض أن الجميع يحاربه وهو على صواب ، ولذلك يحاولون الهروب.
من داخل المستشفى
ويعود الطبيب الخواجا بذاكرته الى أيام الحرب على غزة ويسرد بعض الحالات التي دخلت باضطراب عقلي مباشر، ويقول " وصلتنا فتاة أنكرت أن شقيقها استشهد وذلك بعد تأخر وصول جثته في الضربة الأولى للحرب ، وكانت تطرد المعزين ، وتصرخ في الشارع "شقيقي لم يمت" .
ووصلت امرأة للمستشفى وهي تعاني من اضطراب عقلي بعدما سقط صاروخ على منزل جيرانهم بينما كانت تنشر الغسيل فوق سطح منزلها، فدخلت على اثر تلك الصدمة بغيبوبة وفاقت وهي تعاني من اضطراب عقلي.
وفي داخل المستشفى يرقد المريض "فايز" ، الذي يعمل بالأجهزة الأمنية السابقة في غزة وذووه مقيمون في الخليل وتعود إصابته الى العام 1998 عندما أصيب باضطراب عقلي ، ولم يتمكن من العودة لأهله وبقي مقيما في المستشفى.
ومنذ إصابته بالمرض النفسي منع الأطباء عمله في الأجهزة الأمنية خوفا من أن يصبح لديه دلالات تجاه زملائه وهو يحمل السلاح فيعتدي عليهم، ويشير الطبيب الى أن حالة المريض مستقرة ، وبقي مقيما قسراً بالمستشفى لأنه لا يوجد لديه مكان آخر للذهاب إليه بعدما تعثرت محاولات سفره لذويه بالضفة المحتلة.
ولفت الطبيب الخواجا الى أن هناك أسرى لديهم اضطرابات نفسية كانوا تعرضوا للاعتقال والتعذيب في سجون الاحتلال فباتوا يعانون من اضطرابات عقلية.
ويعتقد الخواجا أن تغيير نظرة المجتمع للمريض النفسي يحتاج لتوعية وحملة إرشادية تقوم بها أكثر من جهة.
ويطالب الأطباء والعاملون في المستشفى بضرورة النهوض بقطاع الصحة النفسية، والاهتمام أكثر بمستشفى الطب النفسي والخدمات التي يقدمها ، لاعتقادهم أنه شهد تراجعا خلال الفترة الماضية.