"مجموعة بنات جايين ع الطريق.. يا دوب الحق أجهّز حالي.. امسك نفسك يا ولد.."، هنا يبدأ المشهد الدرامي، بعض من الدموع المصطنعة ومزيد من ملامح الحزن المزيفة، وأصبح خالد جاهزاً.
على أحد أرصفة مفترق الأزهر وسط مدينة غزة، يفترش خالد -اسم مستعار- متكئاً على صندوق بضاعته، كسجادة مهترئة أضعف المارون حالتها بخطواتهم المشحونة بالاستهزاء أحياناً.
وصلت مجموعة الفتيات وأصبحن الآن بمحاذاته، نظرن إليه بعطف وشفقة، بعد رجائه وإلحاحه المصحوبان بدموع كاذبة، كانت –ولا زالت- الوسيلة الأنجع لجلب زبائنه.
إحدى الفتيات ليست بحاجة إلى المحارم التي يحملها على متن "الكرتونة"، لكن منظر الطفل الذي "قطّع قلبها" –وفق قولها- دفعها إلى الشراء.
لا يحتاج خالد إلى مادة دموع صناعية، لبدء مشهد درامي تمثيلي يستطيع من خلاله كسب ود المارّين على الرصيف؛ بهدف بيع حاجاته التي يحمل هم تصريفها أكثر من ثقل وزنها.
رأس ماله يتمثل بمجهود قليل، من خلال الضغط عن نفسه متوسلاً إلى عينيه بإنزال بعض "دموع التماسيح" (تشبيه يطلق على الدموع الكاذبة)، يصحبها بتقويس شفتيه للأسفل، راسماً بذلك قصة حزينة.
خالد فتى الأربعة عشر ربيعاً، يخرج من بيته عند الظهر، عقب عودته من المدرسة حاملاً صندوقاً ورقياً يحتوي المحارم وبعض عبوات المناكير وأغراضاً أخرى تشغل اهتمام الفتيات، ولا غنى بالتأكيد عن كتابه المدرسي الذي يراجع من خلاله بعضاً مما تلقاه في المدرسة.
فور وصوله إلى مسرح عمله، يفرش خالد ما يحمله من بضاعة على الارض ويسند ظهره الذي تقوّس بفعل ثقل الحمولة، في حين يجلس منتظراً جماعة من الفتيات؛ أملاً في تصريف بضاعته.
وليس غريباً أن يستهدف "الولد المخادع" في مسرحيته الدرامية طبقة الاناث، بحكم أنهن مرهفات الإحساس ومن السهل استمالتهن وجلب استعطافهن، وهنّ الوحيدات فقط من يستطعن الشعور بمعاناته وتقدير دمعاته. وفق قوله.
ولا يجد خالد حرجاً في طريقة بيعه التي تغلبها أطباع الخداع والمكر؛ لأن لا سبيل سوى ذلك من أجمل جمع بعض الشواقل، التي تعد الوسيلة الوحيدة لرسم الفرحة على مبسم إخوانه الأيتام.
وخالد كأخوته، يعيش يتيماً برفقة والدته التي يقتصر عليها دور الرعاية والتربية في البيت، وباعتباره الابن الكبير تقع على عاتقه مسئولية جمع المال وتلبية احتياجات الأسرة.
صباح كل يوم يذهب كالعادة إلى المدرسة بصحبة إخوانه الذين يصغرونه سناً، ووفق قوله، فإن مدرسيه يشهدون له بارتفاع تحصيله، وأن معدله الدراسي لا يقل عن ثمانين في المائة.
وما أن يصدح المؤذن بحنجرته معلناً دخول وقت الغروب، تبدأ رحلة العودة إلى البيت والبحث عن الراحة بعد مشوار طويل يجمع خلاله خمسة شواقل، الذي قد يستمر لسبع ساعات أو ثماني.
يصل خالد إلى بيته ويلقي "الكرتونة" التي أرهقت كاهله، وقبل تناول ما يخمد جوعه، يحاول على عجلة استكمال مراجعة دروسه التي بدأها على الرصيف، قبل أن يخلد إلى النوم؛ لنيل قسط من الراحة.
ويبدي خالد سعادة وفخراً بعمله المتواضع، على الرغم من احتوائه على أساليب خادعة، إلا أن ما "جبره على المرّ سوى الأمرّ منه"؛ لأن على عاتقه تقع مسئولية إعالة أسرته، لكنه في المقابل يعرب عن حزنه خوفاً من ضياع حقه في التعليم.
ووفقاً للمادة (28) من اتفاقية حقوق الطفل، فإنها تنص على حقه في التعليم، وجعل المرحلة الابتدائية منه إلزامية ومتاحة مجاناً للجميع، فيما تنص المادة (6) على أن لكل واحد منهم حقاً أصيلاً بالحياة.