تجلس آية تقلّب صفحات كتاب التاريخ، تستعد لاختبارات نهاية العام التي تحين مع ذكرى النكبة الأليمة، على وقع صوت المذياع الذي يصدح بأغنية فيروز "سنرجع يومًا"، وبينما تردد كلمات الاغنية تدخل والدتها.
تغلق كتابها رغمًا عنها وتخفض صوت المذياع، وتنتبه لتسمع إلى الأغنية بصوت والدتها الذي صُبغ بلون يافا ورائحتها، وتبدأ دموعها برسم خطٍ منحنٍ على وجهها، يظهر جزءًا من خارطة فلسطين التاريخية.
وبينما تردد الحاجة أم علي كلمات فيروز، تلامس بأطراف أصابعها المجعّدة جدائل ابنتها الناعمة، وتسوقها إلى مكان نومها؛ لتبدأ –كالعادة- بسرد قصص يافا القديمة، بناءً على طلب الأخيرة.
تقول آية نقلًا عن رواية والدتها: "إنها كانت تعيش في مدينة يافا/المنشية، حياة البسطاء القريبة إلى عيشة الفقراء، برفقة والدها الذي كان يملك مطعمًا للمأكولات الشعبية".
بسمة ترتسم على ثغرها تغلب عليها العفوية، ولا تجد حرجًا أو خجلًا في الاعتراف بفقر عائلتها؛ بحكم أن معظم العائلات المهجّرة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، كانت تعيش مثلهم.
عندما كانت تعيش أم علي في يافا، لم تكن تمتلك حينذاك سوى فستانين، الأول تستر به جسدها وتظهر أناقتها، في الوقت الذي يكون فيه الفستان الآخر متّسخًا مغسولًا معلقاً على حبل الغسيل.
تتابع الحاجة السبعينية اللعب بضفائر ابنتها صاحبة الخمسة والعشرين ربيعا، وتستكمل حديثها عن بساطة العيش في يافا قبل دخول القوات (الاسرائيلية)، وقصة التعرف على أبو علي والارتباط به.
تقول أم علي مخاطبةً ابنتها: "أجا أبوكي مهاجر من مصر، وتعرّف على سيدك، وراح يشتغل في مينا يافا، وشوية شوية تطورت علاقتهم، وكنا زي أهل بالنسبة إله، لأنه كان وحيد".
بدأت علاقة والد أم علي تتطوّر مع زوجها المستقبلي الذي جاء من مصر؛ ولأن والدها اكتشف "معدن أبو علي الطيّب" قطع عهدًا على نفسه بأن تكون ابنته الوحيدة "هلال زلال عليه".
في ليلة لم تشهد ضوء قمر.. بدأت صرخات تجوب أرجاء حي المنشية بالمدينة، تناشد سكانها بالخروج من بيوتهم، لأن آلة الحرب (الاسرائيلية)، تقتل الرضيع قبل الشيخ. برواية آية عن والدتها.
خرجت أم علي من يافا بصحبة عائلتها, ورافقهم خلال رحلة الهجرة زوجها المستقبلي صاحب العلاقة القوية مع والدها، لاسيما بعد قصف المدينة بـ "البراميل المتفجرة" التي أسمتها آية بـ "القيزنات" كما تطلق عليها والدتها.
أخدت والدة آية بالرحيل واتجهت كما باقي العائلات نحو جنوب فلسطين، بحكم أنها أكثر المناطق أمانًا وأبعدها عن قصف الطائرات (الاسرائيلية) ومدافعها، متخذين الطريق الساحلي مسلكًا.
بدأت رحلة الهجرة بالسير على الأقدام، إلى حين صادفت العائلات المهجّرة –من ضمنها عائلة أم علي- شاحنة اقلّتهم إلى مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، استمرت في طريقها أربعة أيام.
وعندما وصلت العائلة إلى وسط القطاع استقرت هناك فترة وجيزة، قبل أن تنتقل إلى مدينة غزة، التي شهدت على وفاء والد أم علي لوعد صاحبه الذي صمم على زواجه من ابنته الوحيدة.
وتوفيت الحاجة أم علي عام 2002، وتركت آية –كما جميع أولادها- تعيش بذكريات النكبة وحلم العودة إلى يافا، آملةً بأن ترجع يومًا إلى بيتها هناك؛ لتعمل بوصية والدتها.
وتقع مدينة يافا الفلسطينية على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. وتعد إحدى نوافذ فلسطين على البحر، ومن خلالها يتمّ اتّصال فلسطين بدول حوض البحر المتوسط والعالم.