كان منطقيا جدا بالنسبة لرجل الشارع في إسرائيل، ومعه النخبة الفكرية، أن يفوز الإخوان المسلمون برئاسة مصر. ما لم يكن منطقيا أن يثور المصريون ضد الإخوان المسلمين.
قبل حوالي عشر سنوات، جرى نشر حوار مع المؤرخ بني موريس في صحيفة هآرتس، عبر فيه عن خوفه أن تقوم في القاهرة ثورة إسلامية تبدأ في إرسال الصواريخ النووية ضد إسرائيل.
هذا هو التاريخ الذي يحبه مفكرو الخط الرسمي للدولة: إن انتهى مبارك فسيأتي الإسلاميون. هذا هو الطبيعي والمعتاد. فالشارع الإسرائيلي، ومعه غالبية النخبة، تعوّد طول الوقت على النظر للعالم العربي المحيط من خلال ثنائية «أنظمة أمنية/ شارع إسلامي»، لهذا يبدو واضحاً الارتباك لديه في النظر لثورة أو انتفاضة ـ
لا تهم الأسماء هنا ـ 30 يونيو. ولهذا ربما، تذوب ثنائية اليمين واليسار بقوة في إسرائيل إزاء ما يحدث في مصر. فحتى اليسار الراديكالي لا يستطيع تحديد موقف بدقة، ويبدو مزايداً على الجماهير المصرية.
مثلاً، يصدر حزب «دعم» العمالي الاشتراكي بياناً يبدو شديد التوجس مما حدث في 30 يونيو. عنوان بيانه هو «لا للانقلاب العسكري»، ويبدأ بـ: «عناوين صحيفة الأهرام اليومية لا تترك مكاناً للشك: مصر تقف اليوم أمام انقلاب عسكري يدّعي أنه جاء استجابة لرغبة الشعب».
اللهجة الوصائية ميّزت نبرة البيان، والحجة الأقوى فيه هي صندوق الانتخابات: «صحيح أن الإخوان المسلمين لا يمكنهم حكم مصر، ولكن استبدال سلطتهم ينبغي أن يحدث من داخل صندوق الانتخابات وليس من خلال انقلاب عسكري ضد الديمقراطية».
السؤال الذي يطرحه البيان، هو «إن كان لحركة تمرد كل تلك القوة في الشارع، فلماذا تخاف من الانتخابات؟». وهكذا يتجاهل البيان مطلب إجراء الانتخابات المبكرة الذي طالبت به المعارضة ورفضه «الإخوان»، لصالح الصيغة الاستعلائية الاسرائيلية: «ينبغي على تمرد أن تعرف أن الطريق للجحيم مزروع بالنوايا الطيبة»، وهو ما يقربنا للغة اليمين العنصري الذي يتجاهل البعد العلماني في حركة 30-6، كي يركز على البعد «غير الديمقراطي». يعني، إن لم يكن من الممكن اتهام الجماهير العربية بالميل نحو الإسلام السياسي، فلنتهمها بعدم الديمقراطية!
سمة لافتة في بيان حزب «دعم» أيضاً، هي تجاهل الحديث عن العلاقات المصرية الإسرائيلية. يمكن لليمين الإسرائيلي أن يعلن انحيازه لمرسي لكونه قام بالتنسيق مع إسرائيل في غزة وسيناء ونفذ بنود اتفاقية كامب ديفيد، ولكن لا يمكن لليسار، خاصة ذاك الأكثر راديكالية منه، ونعني هنا اليسار الذي يضم عرباً ويهوداً، أن يفعل هذا. لا يمكنه الإشارة إلى كامب ديفيد، لا بالسلب ولا بالإيجاب. لنطالع هذه الفقرة من البيان: «شعار الإسلام هو الحل ليس له مستقبل. عام من تولي مرسي الحكم كشف أن الإسلام السياسي لا يختلف كثيراً عن النظام السابق، من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية، والعلاقات مع صندوق النقد الدولي، ورفض الاعتراف بالنقابات المهنية المستقلة، ورفض دعم مطالب العمال».
انتبهوا هنا للمسكوت عنه! في فقرات من هذا النوع حيث يحاول الكاتب التأكيد على أوجه التشابه بين النيوليبرالية والإسلام السياسي، بين نظام مرسي ونظام مبارك، يتم الحديث عن العلاقات بالولايات المتحدة وإسرائيل. ولكن هنا تم تجنب الموضوع تماماً! في هذه النقطة كان اليمين أكثر شجاعة: نحن نؤيد مرسي لأنه يحافظ لنا على علاقتنا بمصر، ويعطيها الشرعية الشعبية أيضاً.
***
«أربعة أسباب لدعم مرسي»، هذا هو عنوان مقال المحلل السياسي أنشيل فيفر في صحيفة «هآرتس». وأسبابه التي يجب بمقتضاها على إسرائيل أن تدعم محمد مرسي هي على التوالي: أنه تحت قيادة مرسي، وافق الإخوان المسلمون، وهي الحركة الشعبية المنتخبة ديمقراطياً، على اتفاقية كامب ديفيد. صحيح أنهم تحدثوا عن إمكانية تعديل الاتفاقية، ولكنهم في الواقع نفذوها، بالضبط مثل نظام مبارك من قبلهم، بل وقد تحسنت الأوضاع في فترة حكم مرسي عما قبلها. والسبب الثاني هو إمكانية سيطرة الإخوان المسلمين على تحركات حركة حماس ضد إسرائيل، وعدم اعتراض حكومة مرسي على تنفيذ عملية «عمود السحاب» التي نفذتها إسرائيل في غزة، مما أدى لوقف إطلاق نار سريع في نصف السنة الأخيرة، حافظت عليه حماس بصرامة.
والسبب الثالث برأي الكاتب هو موضوع الأنفاق وإقناع حكومة مرسي للجيش المصري بالعمل ضد نشطاء القاعدة في سيناء وضد تهريب السلاح الذي يتم عبر الأنفاق. أما السبب الرابع والأخير، فهو أنه، على خلاف توقعات الإسرائيليين، فقد حدث تباعد بين الحكومة المصرية، الإخوانية السنية، وحزب الله الشيعي، على خلفية الصراع السني/الشيعي في المنطقة، وعلى خلفية الصراع ذاك، فقد أصبحت مصر داخل المعسكر المعادي لإيران في المنطقة. كان هذا واحدا من المحللين القلائل الذين عبروا بلا ارتباك عن موقفهم وانحيازهم إزاء ما يحدث في مصر. الموضوع بالنسبة له شديد البساطة: نحن ندعم مرسي لأنه يخدم مصالحنا أكثر.
***
وبالإضافة للتحليلات الإجرائية، والأسئلة عن الثورة في مقابل الانقلاب العسكري، وعن مرسي في مقابل السلطة الآتية بعده، فإن البعض يلتفت لأشياء أكثر عمقاً، تتعلق بالمجتمع وقوة الجماهير.
يقارن عوفيد يحزقئيلي، الذي كان سكرتير الحكومة في فترة إيهود أولمرت، بين الجماهير في البلدين، وبين حدثي عزل محمد مرسي والاحتجاجات على أزمة الإسكان التي حدثت عام 2011 بإسرائيل: «نحن في الغالب نفكر في نفسنا كدولة غربية ديمقراطية ومستنيرة، وننظر إلى المصريين بتعال، كأننا نقول: هذا لا يمكنه الحدوث عندنا».
ويواصل: «الجماهير المصرية تختلف عنا: هي تتجمع وتخرج للتظاهر بدون هدنة، ليس فقط في الفيسبوك، بل أحيانا من خلال الانجرار لاستفزازات وأعمال عنيفة. إنها جماهير عنيدة، مركّزة، تعرف ما الذي تريده ولا تنظر للخلف حتى تتحقق رغبتها. ورغبتها تحققت. المرة الوحيدة الحقيقية التي تصرفت فيها الجماهير الإسرائيلية بشكل مشابه للجماهير المصرية حدثت قبل صيفين، عندما خرج نصف مليون مواطن للتظاهر من أجل هدف مشابه. الفارق الأكبر اتضح في العملية والنتائج على حد سواء: بينما الجماهير المصرية لا تهدأ حتى تتغير السلطة وتضغط في الشوارع بشكل لا يمكن تجاهله، فالجماهير الإسرائيلية توقفت عن التظاهر عندما أقيمت لجنة ترختنبرج. ولكن منذ أن توقف الضغط الشعبي وعادت طرقات روتشيلد لعادتها، ذابت توصيات اللجنة. والنتيجة معروفة».
بدت هذه المقارنة مستفزة جداً لجمهور الإسرائيليين، الذين ينتمي أغلبهم إلى اليمين، سواء اليمين الديني أو اليمين الدولتي.
أحد التعليقات على مقاله كان تهكمياً: «ملخص المقال: لماذا يهنئ المصريون وحدهم بالعيش في دولة لا تقوم بوظائفها، ويمكن فيها لأي متظاهر جاهل وعنيف أن يفرض إرادته؟ نحن نستحق هذا أيضاً».
ويقول آخر، في تماه ـ يميني الطابع - مع بيان حزب «دعم» اليساري المشار إليه سابقاً: « في الدول الغربية لا يتم نقل السلطة في الميادين وانما عبر صناديق الانتخابات، وليس هذا ما يحدث في ليبيا وتونس ومصر».
تعليقات القراء كثيراً ما تكون كاشفة لمزاج الجمهور في إسرائيل. تحكي ليات كوزما عن قصة الثلاث سنوات الأخيرة في مصر، بين مبارك والمجلس العسكري وحكم مرسي، فيرد عليها أحدهم: «المصريون ليسوا جاهزين للديمقراطية بعد، ما يحتاجونه فقط هو حكم مركزي قوي».
***
الكاتب بني تسيفار، وهو رئيس الملحق الثقافي في هآرتس، له قصة أخرى، يصْدق عليه بقوة وصف «الكاتب المثير للجدل».
يكتب كثيراً عن القاهرة، ويزورها أكثر، ويقارن القاهرة، كمدينة أوروبية الطابع وراقية، بتل أبيب الكئيبة! وأعلن مرة عن تمنيه أن يدخل في دين الإسلام.
هو ليس مهرجاً. فكثيرا ما يدعم آراءه الغريبة بتحليلات شديدة المنطقية، بالإضافة إلى حدته في إدانة العنصرية الإسرائيلية المتمركزة حول ذاتها.
ولكنه عندما يكتب عن شأن سياسي في مصر، يبدو كما لو كانت معرفته عن مصر مستقاة، كمن يقرأ ولا يزورها مثلاً. يحلل ما حدث في مصر بوصفه عَرَضاً نفسياً ليس أكثر، لا يتصل بأسباب حقيقية: «احتياج الشعب المصري لتحطيم أي قيد أصبح جزءاً من المرض النفسي ذاته، وليس له أدنى ارتباط بالحسابات السياسية الجادة. لهذا فمضحك جداً مشاهدة هؤلاء المحللين الإسرائيليين المخصصين للشؤون العربية، وهم مدعوون إلى استوديوهات التليفزيون لتحليل الوضع في مصر. الوضع في مصر ليس أمراً ينبغي على المحللين السياسيين الاهتمام به، وإنما أطباء النفس وعلماء النفس».
يبدو تسيفار شديد الاحتقار لحركة الجماهير المصرية. ولكن ليس هذا ما يستفز قراءه، ما يستفزهم بشدة هو دفاعه عن مرسي : «بعد انتهاء كل شيء، فرئيس مصر الحالي ليس أسوأ على مصر مما هو بنيامين نتنياهو مثلاً بالنسبة لإسرائيل».
يعترض أحد القراء على هذا التشبيه، ولكنه يبدو سعيداً بأن تسيفار: «في سائر المقال لا يتوقف عن شرح كيف أنهم المصريين - ظلاميون، يفكرون كقطيع غنم، وما إلى ذلك».
يقول القارئ: «أتفق مع النصف الثاني من الكلام، وأتفهم فوراً الفارق بين زعيم تم انتخابه بطريقة ديمقراطية من قبل شعب ذكي مدرب على الديمقراطية، وبين زعيم تم اختياره بطريقة تبدو ديمقراطية على يد شعب فاشل يفكر مثل القطيع ولا يعرف ما هي الديمقراطية»! هذا التعليق كاشف جداً، لأنه يدلل على نوع آخر من اليمين، اليمين الرافض لمرسي من منطلق رفضه الثقافي للشعوب العربية نفسها، وتشكيكه في نتائج صندوق الانتخابات بالنسبة لشعب «غير جاهز للديمقراطية».
هكذا يمكننا أن نرى حجتين متناقضتين ظاهرياً، مثل «المصريون غير جاهزين للديمقراطية، ولهذا اختاروا مرسي»، و«المصريون غير جاهزين للديمقراطية، ولهذا خلعوا مرسي»، يُستخدَمان من أجل دعم الخطاب نفسه، ويتم استخدامهما عند اليمين واليسار، وكأن المصريين في جميع الأحوال عليهم السير على كتيب تعليمات موحد، قادم من الخارج، ولا يمكن تحليل حركتهم بدون الاستعانة بهذا الكتيب.
عودة للارتباك الذي بدأنا به. هذا الارتباك تلخصه بقوة عبارة واحدة قالها أحد المعلقين على واحد من المقالات التي تتحدث عن مصر وتفاضل بين الإخوان المسلمين والثوار ضدهم. يقول التعليق الحزين: «أما نحن فلا يحبنا أحد، لا الإخوان المسلمون ولا الثوار!».
صحيح، ما أصعب أن يختار المواطن الإسرائيلي بين قوتين، تعلَّم طول عمره عبر المدرسة والإعلام، أنهما شيء واحد اسمه «العرب المحيطين بنا الذين يكرهوننا جميعاً»!
السفير العربي