محمد ومحمود توأمان يبلغان من العمر سنتين ونصف يلحان على والدهما الصياد رائد أبو عودة على مرافقته للصيد كل صباح، ولكن توسلاتهما ترتطم بالرفض.
رفْض أبو عودة ليس خوفا من البحر نفسه، فالبحر -على غدره- آمن ممن رسم فيه حدودا وتربع خلفها وهم جنود البحرية (الإسرائيلية)، لكن من الصعب على هذين الطلفين لم يتما ربيعهما الثالث بعد، أن يدركا ذلك، بقدر ما هو صعب على أب عدم الامتثال لطلبات التوأمين وخصوصا أنهما آخر العنقود.
فكرت زوجة رائد بحيلة تريح بها زوجها وطفليها فاقترحت عليه استبدال قوتهم اليومي بلعبة صيد الأسماك، اشترى رائد لأولاده اللعبة التي فرحوا بها جدا وجلس بجوارهما ليعلمهما قواعدها معطيا لمحمد صنارة زرقاء ولمحمود صنارة خضراء وأدار مشغل اللعبة.
نظر رائد لطفليه ممسكا أيديهما التي تشبثت باللعبة وقال" الفائز هو الذي سيصطاد أكبر عدد من الأسماك ووقت اللعبة ينتهي عند صيد جميع الأسماك".
فجر اليوم التالي ودع رائد أولاده ومضى لعمله، وصل رائد لمركبه في تمام الساعة الخامسة فجرا فجهز عدة العمل من ثلج وكاز وطعام وشبك وعندما اكتمل عدد الصيادين الذين يبحرون معه على متن المركب سموا باسم الله مجريها ومرساها.
تعالت أغاني الصيادين القديمة في عرض البحر فهدأت أمواجه، ولما وصلوا مسافة الثلاثة أميال وهو الحد المسموح لهم بالصيد فيه ألقوا شباكهم، وجلسوا يتقاسمون فطورهم.
كان كل شيء طبيعيا وهادئا كهدوء الصباح الذي يرافقهم إلى أن اقتربت منهم دبابير (إسرائيلية) وأحاطتهم من كل جانب، واستمرت بإطلاق ما يعرف بين الصيادين بـ(النطاط) وعندما أحكمت سيطرتها بدأت بسحب الصيادين واحدا واحدا إليها.
أسند رائد كتفه إلى عمود المركب وسرح في البحر قليلا وأضاف " كنا في الدبور في تمام الساعة الحادية عشرة صباحا ووصلنا لميناء أسدود في الساعة الثالثة عصرا، وبعدها أدخلوني لغرفة المخابرات".
أكمل رائد بعد أن تنهد بعمق " في تحقيق المخابرات لم يتطرقوا أبدا للحادثة بل عرضوا على وعلى زملائي العمل معهم".
مسح رائد وجهه بكفيه وتابع " بعد انتهاء التحقيق ركبنا في باص أوصلنا لمعبر ايرز في الساعة الثالثة فجرا".
ركل الصياد الشاب صندوق سمك فارغ واستطرد " كلما شعر جنود البحرية (الإسرائيلية) بالملل لعبوا معنا لعبة تشبه اللعبة التي اشتريها لأطفالي، فالفائز من يصطاد أكبر عدد من الصيادين، ووقت اللعبة غالبا يقدر بيوم واحد وهي مدة الاعتقال".
رفع رائد رأسه وأضاف "ما أكثر ألعاب الاحتلال فهم أيضا يلعبون معنا لعبة "فتحي يا وردة غمضي يا وردة" وفي كل الحالات يخنقون الوردة فمرة يسمحون لنا بالصيد في مسافة 3 أميال ومرة في مسافة 6 أميال وفي الحالتين نحن صيدهم السهل ولعبتهم الدائمة".
قطع رائد حديثه مع "الرسالة نت" عندما علا صوت زملائه الصيادين طالبين منه الإسراع ليركب معهم على متن عربة الحصان ليعود إلى بيته بدلا من تكلفة أجرة السيارة، فيما أشار لهم بإصبعه طالبا منهم الانتظار منهيا حديثه " خبزي وخبز عائلتي مغمس بطعم ورائحة الدم".
استطاع رائد إيجاد مساحة صغيرة يجلس بها قرب زملائه على متن العربة، وترك خلفه شبك الصيد ومركبه الذي يحتفظ في كل زاوية منه بذكرى لحوادث (إسرائيلية).
سارت "الرسالة نت" في ميناء غزة البحري وشاهدت عشرات الصيادين الذين يجهزون شباكهم ولما سألتهم من تعرض فيكم للاعتقال ضحكوا جميعا فيما عقب أحدهم: "من الأفضل سؤالنا من منكم لم يتعرض للاعتقال".
هدوء البحر وركون المراكب تطوي بداخلها حكايات الصيادين ومآسيهم، ونكتهم ورغبتهم في الضحك على أي شيء يخفي خلفه قهر وظلم وغطرسة الاحتلال الذي يحرم 3700 صياد من العمل في ظروف كريمة ويهددهم بالاعتقال في أي لحظة.