في صالون الحلاقة أحاديث في السياسة والاقتصاد والحرب والنسوان، ودور الحلاق يشبه دور فيصل القاسم في الاتجاه المعاكس.. "يرمي حجر في بير هات ميت عاقل تيطلّعو"، فيعلو الصراخ بين مؤيد ومعارض، وفي الخلفية صوت مقص الحلاق، ينبههم أن الدور قادم على الجميع.
حكاوي الحلاق بمثابة مخدر للزبون المقيد بشال وقد سلم رأسه بهدوء، وصاحبنا أبو مقص يلون المواقف والقصص بناء على توجهات ورغبات الزبون، فالموقف السياسي للحلاق أهم من الأداء المهني له حتى يحافظ على زبائنه.
لكن كثيرا من أسرار الحارة التي تنكشف يكون الحلاق مصدرها، ويبدو أن البحث عن الإثارة تدفع البعض للجلوس على كرسيه بحثا عن قصص جديدة.
وحتى لا يزعل إخواننا الحلاقون فقد كان الحلاق القديم يلعب دورا مهما ومحترما في المجتمع، كان يقوم أيضا بدور الطبيب الشعبي فهو يقوم بختان الأطفال وجبر كسور العظام وإعطاء بعض الأعشاب الطبية ومنها إعداده الملين الرهيب "شربة السنا مكي" مع الحُلبة، ويقوم أيضا بتدليك الشد العضلي في الجسم.
وللعلم فبعض حلاقي القرى قديما كانوا للجميع بشر وأنعام.. وقصة إبراهيم المازني الروائي المصري التي اوردها هنا للتذكير بفضائل الحلاقين اليوم مع التطور في وسائل وأساليب التزيين.
حيث يروي المازني: وقعت لي هذه الحادثة في الريف منذ سنوات عديدة، وكنت أنا الجاني على نفسي فيها فقد عرض علي مضيفي أن أستعمل موسيه فأبيت، وقلت مادام للقرية حلاق فعلي به. فجاء بعد ساعات يحمل ما ظننته في أول الأمر (مخلاة شعير) وسألته متى ينوي أن يحلق لي لحيتي فقال: هيا وأقبل على (مخلاته) فأخرج منها مقصاً كبيراً جداً فدنوت من أذنه وسألته هل في القرية فيل؟
فقال: فيل؟ لماذا؟
فأشرت إلى المقص وقال: هذا مقص حمير ولا مؤاخذة
فقلت: ولماذا تجيئني بمقص الحمير؟ أحمار تراني؟
ويظهر أن معاشرة الحمير بلدت إحساسه فإنه لم يعتذر لي ولا عبأ بسؤالي شيئاً، ثم أقبل علي وقال: تفضل. قلت: ماذا تعني قال: اجلس على الأرض، قلت: ولماذا بالله؟ قال: ألا تريد أن تحلق؟ قلت ألا يمكن أن أحلق وأنا قاعد على الكرسي؟ قال وأنا؟ قلت في سري: وأنت تذهب إلى جهنم.
وهبطت إلى الأرض كما أمر، ففتح موسي كالمبرد، قلت: إن وجهي ليس حديداً يا هذا، قال: لا تخف إن شاء الله، ولكني خفت بإذن الله ولا سيما حين شرع يقول (بسم الله، الله أكبر) كأنما كنت خروفاً، ويبصق في كفه ويشحذ الموسي على بطن راحته.
ثم قرأ من الكتاب الكريم "فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى.." إلى آخر الآية الشريفة.
ولا أطيل على القارئ. فقد أهوى الرجل بموسيه على وجهي فسلخ قطعة من جلدي فردني الألم إلى الحياة وآتاني القوة الكافية للصراخ على الرغم من الكمامة ووثبت أريد الباب ولكنه كان على كبر سنه أسرع مني، فردني بقوة ساعده. فتشهدت وتذكرت قول المتنبي:
وإذا لم يكن من المـوت بد
فمن العجز أن تموت جباناً
ثم جاء هذا السفاح بطشت يغرق فيه كبش ووضعه تحت ذقني وصب ماءه على وجهي وفي صدري وعلى ظهري، ليغسل الدم الزكي الذى أراقه وأخرج من مخلاته (منشفة) هي بممسحة الأرض أشبه فاعتذرت وأخرجت منديلي وسبقته به إلى وجهي. فهي معركة لا تزال بجلدي منها ندوب وآثار.