أربعون عاما مرت على حرب تشرين وبينما تكاد تنسى عندنا فإنها لا تزال تحتل مكانا مركزيا في الذهن والسجال العام (الإسرائيلي).
ورغم أن حرب تشرين عنت عموما للعرب موقعة استعادة الكرامة العربية التي كانت قد تبددت في حرب حزيران العام 1967 وحروب أخرى سبقتها وشكلت انتصارا حتى في ظل الاختلاف حول استثماره، عنت عند (الإسرائيليين) موقعة تبديد الأوهام يوم الهزيمة واكتشاف القصور.
ومثل الكثير من الموارد، البشرية والطبيعية والفكرية، المتبددة في الوطن العربي يتبدد معنى ذلك اليوم حينما نرى ما يحدث في سوريا وفي مصر وفي عموم المنطقة العربية.
ورغم الرضا السائد في (إسرائيل) تجاه ما يجري في المنطقة العربية فإن نوعا من الخوف الوجودي الكامن، العائد أساسا إلى تلك الحرب، يظل يطغى على المناسبة في كل عام.
ومن الجائز أن هذا العام، الذي شهد أكثر من سواه توسع الفجوة بين (إسرائيل) والدول العربية في ذخائر القوة المجتمعية والاقتصادية والعسكرية والعلمية، شهد أيضا تنامي السجال حول العبر المستخلصة من تلك الحرب.
وقد بدأ عدد من كبار المعلقين يطالبون بالتخلي عن مبدأ الاستمرار في "جلد الذات" وإبداء المزيد من الرضا حتى بأثر رجعي عن نتائج الحرب إياها.
لكن الصحافة (الإسرائيلية) عموما والكثير من القيادات العسكرية ترفض إعادة كتابة التاريخ بشكل مغاير لما جرى في الواقع وتكشف مع مرور الوقت واقع أن الصدمة كانت فعلا أكبر مما بدا.
وتظهر الوثائق والشهادات التي تظهر في الصحف (الإسرائيلية) أن الإرباك والذعر والخوف الوجودي كانت سيد الموقف على الأقل في الأيام الأولى للحرب، وأن هذا الذعر جعل من أساطير عسكرية في نظر (الإسرائيليين)، مثل موشي ديان، شخصا أقرب ما يكون إلى "القائد الخطر" المنفصل عن الواقع.
ويتواصل السجال في (إسرائيل) حول حرب تشرين 1973 لأسباب مختلفة موضوعية وشخصية وقومية. فالبعض يريد لهذا السجال أن يحتدم ليوضح لسكارى القوة حاليا، ممن يقودون الدولة العبرية من صفوف اليمين، أن هذه النشوة يمكن أن تتبدد وأن للقوة حدودا.
والبعض الآخر يريد من هذا السجال التأكيد على وجوب استمرار الحذر واتخاذ أقصى درجات الحيطة والتأهب حتى لا تتكرر مفاجأة تشرين 73.
وبين هؤلاء وأولئك يوجد من يريدون السجال وسيلة لمواصلة "حرب الجنرالات" التي لم تتوقف بين رجال أراد كل منهم توسيع حصته في سجلات تاريخ الدولة العبرية.
ويشير معلق (إسرائيلي) إلى أن العبرة المستخلصة من كل الوثائق والمسلسلات والمواد التي تنشر عن حرب 73 وأبعادها التاريخية يجب أن تعلم (الإسرائيليين) عن (إسرائيل) الحاضر وليس (إسرائيل) الماضي.
وحذر من أن النخبة التي أدارت السجال لا تزال تتحكم به بعيدا عن متطلبات الوعي الجمعي المطلوب. وتساءل عما إذا كانت المشكلة هي الحرب أم طريقة التعامل الراهن معها؟.
ورغم كل هذا الكم الكبير من الوثائق والشهادات التي تنشر في (إسرائيل) والخارج عن مجريات تلك الحرب فإن كثيرين في (إسرائيل) يعتقدون أن ضباب تلك الحرب لم يتبدد بعد.
ومع ذلك بادر قائد شعبة الاستخبارات العسكرية، الجنرال أفيف كوخافي إلى نشر مقالة في الصحف بعنوان "عندما نسينا أن نرتاب".
واستهل كوخافي مقالته بالقول انه "عشية يوم الغفران 1973 تمت كتابة عرض استخباري، ضم 37 بندا تصف الانتشار المكثف للعدو في كل القطاعات.
ودرة تاج العرض كانت البند 40 الذي غدا إشارة لخطأ استخباري خطير: احتمال أن تنوي مصر استئناف الحرب متدن".
وشدد على أن المشكلة لم تكن في المعلومات وإنما في التفسير المعطى لها وبشكل استعداد الجيش (الإسرائيلي). وقال ان "الفجوة الهائلة بين الوقائع والتفسيرات يمكن تفسيرها بأبعاد مختلفة، لكن أبرزها وأهمها هو الإفراط في الثقة بالنفس وغياب الشك إزاء ما ينوي العدو فعله وفي أية ظروف". وركز على أن الثقة بالنفس نبعت من "نجاحات سابقة".
لكن انتقاد كوخافي هذا لا يشير إلى أن أشياء كثيرة تغيرت. فهناك نظرية شائعة في (إسرائيل) تجسدت في مسلسل "شرك 73" الذي يقوم على فكرة أن كل القيادة في (إسرائيل) مصابة بما يسمى "صدمة المعركة". فالذي يعيشه (الإسرائيلي) في الجيش يبقى مصاحبا لتفكيره طوال عمره.
وربما أن "صدمة المعركة" نفسها هي التي دعت وزير الدفاع موشي ديان للمطالبة بالتحضير لاستخدام السلاح النووي في نقاشاته مع رئيسة الحكومة حينها غولدا مائير بسبب خوفه من "خراب الهيكل الثالث". ورغم رفض مائير ومجلسها الحربي إلا ان رئيس الأركان وعددا من الجنرالات عادوا في اليوم التالي وطالبوا باتخاذ إجراءات متطرفة فهم منها أنهم يريدون استخدام السلاح النووي.
وفي كل الأحوال، وبعيدا عن الإفراط في التحليل، من المهم الإشارة إلى أن الأيام الأولى لحرب تشرين والتي شعر فيها القادة العسكريون بأن الدولة العبرية على وشك الانتهاء ودفعتهم للمطالبة باستخدام السلاح النووي تبين أن (إسرائيل) ليست قدرا لا يرد، وأن القوة التي تتمتع بها الآن ليست أبدية والأهم أنه لا صحة للادعاء أن السلاح النووي بيد قيادة ديموقراطية يعني أنه مأمون ويدار باتزان.
السفير