الجرافات والزحف العمراني والحصار قضوا عليها ومحاولات للتعويض
غزة- فادي الحسني
لم يعد يفوح رحيق الحمضيات من البيارات..ولا يزين الأسواق حبات التوت الحمراء كالسابق، فالأرض خالية الوفاض، وعروق الشجر متدلية مقفرة، بينما يترحم المزارعون على خيرات الماضي القريب.
ويبدو قطاع غزة، تلك البقعة الساحلية صاحبة الصيت الكبير في الزراعة، كمدينة جرداء، سحق اخضرارها أنياب الجرافات "الإسرائيلية" والزحف العمراني، وجاء إغلاق المعابر ليحول دون تصدير زراعتها وجلب الأسمدة، فيما عمد التجار لجلب الفواكه عبر الأنفاق.
ولكن ثمة سؤال يدور حول أسباب اضمحلال الحمضيات والتوت في القطاع؟ ومدى صمود المزارعين أمام العقبات التي تواجههم؟ وإلى أي حد تسعى وزارة الزراعة لدعم صمودهم وحماية الأشجار من الانقراض؟.
لا تذر دخل
ترك المزارع أبو عمر الغول عمله في زراعة الحمضيات واتجه للعمل كسائق أجرة، خاصة أن زراعة الحمضيات باتت لا تذر عليه دخلا بانقطاع الأسمدة والمواد الكيماوية اللازمة، وإغلاق معابر قطاع غزة، ومنع إدخال "الأشتال".
ووجد الغول نفسه مضطرا للبحث عن مصدر رزق جديد، رغم أنه قضى عمره يعمل مزارعاً، لكنه يقول: "عندما تجد أن ما تزرعه بلا نتاج، ستكون مضطرا لأن تبحث عن أي حرفة أخرى لتعيل أسرتك".
ويتملك الغول وأسرته أراض مزروعة بأشجار الحمضيات، كانوا يصدرون إنتاجها قبل أعوام، لكن إغلاق معابر القطاع والحصار المفروض بات يحول دون ذلك، ودفعهم لبيع الإنتاج للسوق المحلي بأسعار زهيدة.
ويعد المزارع الغول أحسن حالا من غيره، فهو استطاع أن يوجد لنفسه مصدر رزق آخر، في حين أن مزارع "التوت الأرضي" غسان أبو خوصة يتمنى إيجاد فرصة عمل بديلة، خاصة أن الزراعة "لم تعد تغطي نفقاتها" كما قال.
ويضيف أبو خوصة في العقد الثالث من العمر "ليس لنا كار غير الزراعة، لكن لو توفرت لي فرصة عمل بديلة بكل تأكيد سأهجر الزراعة، لأنها لم تعد توفر لي قوت يومي".
ويضيق صدر أبو خوصة وهو مزارع "توت أرضي" من غلاء الأسمدة والكيماويات المستخدمة في الزراعة بالإضافة إلى المستلزمات الأخرى كالنايلون وغيرها، ويقول :"الإنتاج هذا العام لم يغط نفقات النايلون المستخدم في الزراعة".
يندفع المزارع نحو ممرات التوت المغطاة بالنايلون وينزعه عنها، قاطفا حبة قانية الاحمرار، ويقول :"أليس حرام أن تذبل الحبة وهي على حالها".
وأشار إلى أن عوامل مجتمعة ساهمت إلى تراجع إنتاج التوت أو ما اصطلح عليه بـ"الفراولة"، وقال: "هناك قطعتا أرض كنت أزرعهما بالتوت ولكن مؤخرا قمت بزراعتها بالبصل والبطاطا، حتى أعوض الخسارة المتتالية التي تعرضت لها".
ويعد هجران المزارعين لأراضيهم والبحث عن أعمال أخرى، حلقة من سلسلة حلقات ترسم بمجملها ملامح انهيار زراعة الحمضيات والتوت في القطاع.
ولسنوات طويلة اشتهر القطاع بزراعة الحمضيات والتوت وتصديرهما، الا أن ممارسات الاحتلال كاقتلاع الأشجار، وتجريف الأراضي، إضافة إلى الزحف العمراني ساهموا في تراجع هذا "الصيت"، فضلا عن الزحف العمراني وتحويل الأراضي الزراعية إلى سكنية.
لا يكفي
وفي ضوء عدم كفاية المنتج الزراعي لحاجة المستهلك، فإن التجار عمدوا إلى تهريب الحمضيات المصرية، عبر الأنفاق إلى غزة، الأمر الذي يثير الغرابة لدى الكثير.
ورغم ارتفاع أسعار البرتقال المصري إلا أنه يشهد إقبالاً كبيراً من قبل الفلسطينيين على شرائه، في ضوء عدم وجود أصناف أخرى من الحمضيات المحلية في الأسواق من جانب، وقلة جودة المتوفر منها من جانب آخر.
وتحول الدبابات "الإسرائيلية" دون قطف أصحاب المزارع التي سلمت من التجريف والمحاذية للاحتلال، للثمار، وتحرمهم من عوائدها المادية.
ويؤكد المزارع أبو ناهض أنه غير قادر على قطف ثمار مزرعته، ويقول: "لا نستطيع جني ثمار الحمضيات بسبب وجود الدبابات الإسرائيلية المتواجدة على مدار الساعة في المكان.
وبين أبو ناهض أن الجنود لا يتوانوا عن فتح النار على المزارعين كلما أرادوا قطف ثمارهم، موضحا أن البعض يضطر للمغامرة حتى يجلب ما يستطيع جلبه من الثمر.
وبفعل الحصار توقفت عمليات تصدير الفواكه من غزة إلى الخارج لاسيما إلى الدول العربية والأوروبية أيضا التي ظل يصدر إليها البرتقال الفلسطيني والتوت الأرضي لعشرات السنوات، وهو ما حرم الفلسطينيين من عنصر أساسي في مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي.
وأوضح حمدان ضهير وهو مزارع في عقده السادس أن القطاع كان يشتهر بزراعة البرتقال بأنواعه "الشموطي والبلنسيا" و"الكلامنتينا"، منوها إلى أن نحو 60% من الأراضي الزراعية المنتجة للحمضيات تقع بالقرب من الشريط الحدودي سواء من الشمال أو الشرق وتم تجريفها بشكل كامل، وأعيد زراعة نحو 10% منها فقط وتحتاج إلى مدة زمنية طويلة حتى يتم الاستفادة منها.
وأكد ضهير بأن هناك بعض الأنواع من البرتقال "كالشموطي" كانت تزرع في منطقة بيت حانون، وقد تم تجريف أشجاره بالكامل بعد العمليات العسكرية التي كان يشنها الاحتلال على الأراضي المجاورة لمناطق التماس، كما تم تجريف ما تبقى منها خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، بعد أن كان إنتاج مدينة بيت حانون وحدها يصل إلى نحو 15 ألف طن.
15 من 250
ووصلت كمية الحمضيات التي ينتجها قطاع غزة في الوقت الحالي إلى نحو 15 ألف طن فقط، معظمها من الأنواع الرديئة، من أصل 250 ألفاً كانت تصدر في الماضي.
وحسب إحصاءات وزارة الزراعة فإن مساحة الأراضي الزراعية المخصصة للحمضيات قلصت من 70 ألف دونم في السنوات التي كانت تصدر فيها إلى الخارج إلى حوالي 13 ألف دونم في المرحلة الحالية. وهناك جهود لزيادة هذه المساحات خلال الفترة المقبلة، من خلال تشجيع المزارعين على زراعتها.
وأشار وزير الزراعة في غزة محمد الأغا إلى أن حكومته تدفع باتجاه إعادة تنظيم عمليات زراعة الحمضيات على أمل تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي كحل مرحلي، في ظل أن ما يزرع حالياً لا يلبي أكثر من 70 في المئة من احتياجات السكان.
لكنه يقر أن عمليات التهريب لنقل ما يمكن من ثمار الحمضيات ستبقى مستمرة لكون أن هذه العمليات تحتاج لوقت كبير وضمان توقف الاستهداف الإسرائيلي للأراضي الزراعية، وهذا الأمر غير متوفر حتى الآن.
وحسب تقرير صادر عن وزارة الزراعة فقد بلغ عدد المزارعين المتضررين جراء الحرب الأخيرة على غزة (8478) مزارعاً ومنتجاً زراعياً، في حين أن المساحة المجرفة تزيد على (19) ألف دونم، وعدد الأشجار التي تم قطعها يزيد على(411)ألف شجرة.
من جانبه نفى حسن أبو عيطة وكيل مساعد المصادر الطبيعية في وزارة الزراعة، أن يكون هناك أزمة بشأن الحمضيات، لكنه بين أن النقص يعود للتجريف المستمر للأراضي الزراعية من قبل الاحتلال.
وبين أبو عيطة أن وزارته تسعى بشكل دائم لتعويض النقص، حيث عمدت إلى زراعة 4000 دونم بأشجار الحمضيات "كالليمون والكالمنتينا والمندلينا"، موضحا أن هذه الأشجار ستثمر بعد 3-4 سنوات.
وأشار إلى أن وزارة الزراعة أنشأت مشتلا زراعيا لأمهات الحمضيات، وذلك بغية تزويد المزارعين بالأشتال لتعويض النقص القائم.
أما على صعيد التوت الأرضي فبين أن الوزارة طالبت بتقليص نسبة زراعته التي كانت تزيد عن 2500 دونم، ووصلت اليوم إلى 13 ألف دونم، وذلك لأن هذا المحصول يتسبب بخسائر للمزارعين.
وقال أبو عيطة: "قمنا بسياسة التقليل من الخسائر التي يتعرض لها المزارعون، خاصة أن زراعة التوت الأرضي تستهلك كمية كبيرة من المياه"، منوها إلى أنهم وجهوا مزارعي التوت الأرضي إلى المحاصيل البديلة التي بها نقص تحت سياسة "إحلال الواردات" كالفواكه بجميع أنواعها ومحاصيل البصل والبطيخ والشمام.
أسمدة بديلة
ونفى ما وجه لهم من انتقادات تتعلق بعدم مساعدة المزارعين، مؤكدا أنهم أنتجوا أسمدة بديلة من خلال جمع مخلفات النباتات الزراعية وحولوها لأسمدة وباعوها بأسعار رمزية للمزارعين، كما شجعوا جهات مانحة لتصنيع الأسمدة العضوية وتقديمها للمزارعين.
كما بين أن وزارته تحرص للسنة الثالثة على التوالي على منع الاستيراد لتشجيع الإنتاج المحلي، وقال:"نعمل على دعم المزارع من خلال تشجيع الإنتاج المحلي، ومنع الاستيراد من الخارج".
وعن سؤاله لماذا يسمح للحمضيات بالدخول إلى أسواق القطاع عبر الأنفاق، أجاب: "هناك مشروع قائم لتعويض النقص في الحمضيات، وسنوقف إدخال الحمضيات إذا ما أنجز المشروع".
وفي سياق حفاظ وزارة الزراعة على الأراضي من الزحف العمراني، قال أبو عيطة: "هناك قوانين صدرت من قبل الوزارة لمنع قطع الأشجار وهناك طواقم فنية تراقب الاراضي لمنع تحويل الاراضي الزراعية لسكنية".
وأكد الوكيل أن ما يثبت قطعه للاشجار، تحوله الوزارة إلى النيابة العامة.
وكان رئيس مجلس إدارة المحررات اسماعيل محفوظ اعتبر أراضي المحررات الثروة الوحيدة بيد الشعب الفلسطيني وبعد أن تعرضت للسلب والسرقة في عهود سابقة أصبح لا بد من إنقاذ ما تبقى منها.
وأوضح أن مجالات العمل بها واسعة لكنها يجب أن تدار بشكل متواز بحيث لا تحدث خللا أو أثرا سلبيا على القطاعات الاقتصادية المختلفة.
واستدرك: نعيش حالة حصار فإذا قررنا أن نزرع كل المحررات فأين سنذهب بالإنتاج في ظل قيود على التصدير، وماذا سيحل بالمزارع في القطاع الخاص لذلك يتوجب استغلال هذه الثورة بالتنوع وبالاعتماد على الأشجار بعيدة المدى.
وبحسب تقرير معلوماتي صدر عن مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان فان وجود منطقة عازلة بعرض 350 متراً على طول قطاع غزة يمثل خسارة 13.8 كيلو متراً مربعاً من المساحة الإجمالية لقطاع غزة البالغة 362 كيلو متراً ما يهدد السلة الغذائية للمستهلك الفلسطيني ويزيد من معاناة المواطنين المدنيين في قطاع غزة المتفاقمة بفعل الحصار والإغلاق الإسرائيلي المتواصل على القطاع.
وأشار التقرير إلى أن أراضي القطاع الشرقية تعتبر الأكثر خصوبة على المستوى البيئي ومستوى الموارد الزراعية حيث تشكل تلك الأراضي سلة غذائية زراعية للمستهلك الفلسطيني مما يعنى أن استمرار قوات الاحتلال في إتباع سياسة خلق وإنشاء مناطق عازلة في قطاع غزة يعتبر استكمالاً لإجراءاتها التعسفية التي بدأتها مطلع الانتفاضة الثانية في شهر أيلول من العام 2000 حيث تم إنشاء منطقة عازلة بعرض 150 متراً داخل قطاع غزة.