على الرغم من الكمين الذي نصبته " كتائب القسام "، الجناح العسكري لحركة حماس إلى الشرق من مدينة خانيونس، جنوب قطاع غزة، ليلة الخميس الماضي، وما تبعه من تطورات، أسفرت بالمجمل عن استشهاد أربعة من قادة " كتائب القسام " الميدانيين، وجرح خمسة من ضباط الاحتلال، أحدهم في حالة الخطر، إلا أن كل الشواهد تدل على أن (إسرائيل) غير معنية بتاتاً في ظل الظروف الحالية بالتصعيد على قطاع غزة.
وقبل الخوض في سرد المسوغات التي تدفع للاعتقاد أن (إسرائيل) ليست بصدد شن عمل عسكري على قطاع غزة في هذه الظروف، فإنه من الأهمية بمكان ذكر أن المؤسستين الأمنية والسياسية في (إسرائيل) تنطلقان من افتراض مفاده أن مواجهات عسكرية بين المقاومة وجيش الاحتلال ستكون حتمية في المستقبل، وعندما تتغير الظروف التي لا تسمح بمثل هذا العمل.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فإن هذا الاستنتاج متوقف على بقاء وتيرة المقاومة الفلسطينية على ما هي عليه الآن الآن، أما في حال قامت المقاومة الفلسطينية بتنفيذ عمل عسكري كبير انطلاقاً من قطاع غزة ضد الأهداف الصهيونية، فإن (إسرائيل) سترد بشكل كبير، على اعتبار أن هذا ما تفرضه مبادئ العقيدة الأمنية (الإسرائيلية)، التي تحث على الحفاظ على قوة الردع (الإسرائيلية) تحت أي ظرف؛ وفي الوقت ذاته، فإن الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحاكم تعي أن عدم الرد على عمل كبير للمقاومة يعني المس بشعبيتها وبالتالي تهديد مستقبلها السياسي. وهنا سنحاول رصد الظروف التي تحث (إسرائيل) على عدم التصعيد.
أفضل الخيارات السيئة
تدرك (إسرائيل) أن الأوضاع السائدة في قطاع غزة تشكل تهديداً للأمن (الإسرائيلي)، وتعي النخبة الحاكمة في (تل أبيب) أنها مطالبة بالعمل على عدم تعاظم التهديدات التي يمثلها قطاع غزة؛ حيث إن أن دوائر صنع القرار تتابع بقلق جهود حركة حماس الهادفة لتحويل قطاع غزة إلى مصدر تهديد واضح للكيان الصهيوني عبر مراكمة أكبر قدر من القوة التي تزيد من فاتورة أي عمل عسكري مستقبلي للصهاينة، خاصة عن طريق نقل المواجهة إلى العمل الصهيوني.
ومع ذلك، فإن (إسرائيل) تدرك أيضاً أنه لا يمكن أن تنهي هذا التهديد بدون إعادة احتلال قطاع غزة بشكل كامل، وهذا ما لا يؤيده حتى أكثر القادة الصهيونيين تطرفاً وتهوراً، بسبب كلفته العسكرية والبشرية والسياسية الهائلة.
من هنا، فإن صناع القرار في (تل أبيب) يدركون أنه يتوجب الامتناع في الظروف الحالية عن أية خطوة يمكن أن تدفع (إسرائيل) نحو الغرق في المستنقع الغزي. في الوقت ذاته، فإن حركة حماس تريد أن تثبت للعالم أن عمليات " كتائب القسام " تأتي في إطار دفاعي في مواجهة عمليات تسلل يقوم بها جيش الاحتلال.
تعدد بؤر التهديد
تواجه (إسرائيل) في الوقت الحالي عددا من مصادر التهديد، منها تهديدات وجودية، مثل البرنامج النووي الإيراني، ومنها تهديدات إستراتيجية، مثل مخزون السلاح التقليدي في سوريا، ومآلات الأوضاع في سوريا، وإمكانية تفجر مواجهة مع حزب الله، وغيرها من تهديدات.
ومما لا شك فيه أن معالجة هذه التهديدات يستدعي من (إسرائيل) استثمار إمكانيات عسكرية واستخبارية هائلة وكبيرة، وهذا يقلص من فائض القوة الذي يمكن أن توظفه (إسرائيل) في شن عدوان على القطاع.
مصالح الانقلاب ومحور الاعتدال
على الرغم من أن (إسرائيل) تعي حجم العداء الذي تكنه سلطة الانقلاب في مصر للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ومع أنها ترصد الإجراءات التي قامت بها ضد المقاومة، إلا أنها تخشى في الوقت ذاته أن تؤدي عملية عسكرية (إسرائيلية) إلى إحراج الانقلابيين، وإظهارهم كشركاء للصهاينة في الفعل ضد المقاومة الفلسطينية، مما يشكل مساً إضافياً بشرعية الانقلابيين.
قد لا تكون سلطة الانقلاب معنية بهذا الاعتبار أصلاً، لكن الحرص (الإسرائيلي) على عدم إفشال الانقلاب يجعل القيادة الصهيونية تضبط سلوكها بشكل لا يمس بشرعيته. ولا حاجة هنا للتذكير بالجهود التي بذلتها وتبذلها (إسرائيل) من أجل ضمان شرعية دولية للانقلاب.
وعلاوة على ذلك، فإن (إسرائيل) ترى في الجهود التي تقوم بها سلطة الانقلابيين ضد المقاومة، لا سيما محاربة الأنفاق سبباً لتقليص مبررات شن العدوان على القطاع، على اعتبار أن من شأن هذه الجهود أن تحد من إمكانيات المقاومة على صعيد التسليح.
وفي ذات السياق، تخشى (إسرائيل) أن تحرج عملية كبيرة في قطاع غزة الدول العربية التي يمكن وصفها بمحور الاعتدال، خاصة في ظل توافر الكثير من الدلائل على التقاء المصالح بينها وبين (إسرائيل)، لا سيما فيما يتعلق بالموقف من البرنامج النووي الإيراني والرغبة في إفشال تجربة الإسلاميين في الحكم.
إن (إسرائيل) معنية تماماً بالحفاظ على الظروف التي تضمن تواصل التقاء المصالح بين الجانبين، ومما لا شك فيه أن شن عمل عسكري على القطاع يقلص من فرص التنسيق بين (إسرائيل) وبين هذه الدول.
تدهور المكانة الدولية
تعي (إسرائيل) أن أي عمل عسكري ضد قطاع غزة سيكون مرتبطاً بالضرورة بسقوط عدد كبير من الضحايا في صفوف المدنيين الفلسطينيين، حيث من المتوقع أن قنوات التلفزة في العالم ستنقل في حي مباشر أشلاء الأطفال والنساء الممزقة، وهذا يعني حدوث مزيد من التدهور على مكانة (إسرائيل) الدولية؛ ويمكن أن يشكل هذا الواقع مسوغاً لاتهام قادة (إسرائيل) السياسيين والعسكريين بجرائم حرب.
إلى جانب ذلك، فإن (إسرائيل) تعي أن شن عدوان على غزة سيلفت أنظار العالم عن الأوضاع في إيران، وسيقلص من الاهتمام العالمي بالبرنامج النووي الإيراني، مما يعني تراخي الحماس الدولي لمواصلة فرض العقوبات على إيران، سيما في ظل المفاوضات التي تجريها دول الغرب مع إيران.
قصارى القول، كل ما تقدم يقلص من فرص شن عدوان (إسرائيل) جديد على قطاع غزة، ليس زهداً في دماء الفلسطينيين، بل اتساقاً مع المصالح الصهيونية.