"أنا مطمئن اليوم على حماس، شكلت جيشاً قوياً، وأقر الله عيني بصفقة وفاء الأحرار، و أتمنى أن القي ربي راضياً مرضياً"... بهذه الكلمات عبر القائد أحمد الجعبري عن شوقه للشهادة في سبيل الله بعد أن حقق أهم هدف طالما سعى عليه من لحظة خروجه من المعتقل.
"أسر الجنود والمساومة عليهم" كان هذا الهدف الذي وضعه الجعبري في خطته لما بعد الخروج من السجن أثناء اللحظات الأخيرة داخل المعتقل، يومها عاهد إخوانه إخوانه المعتقلين على خلفية تنفيذ عمليات "أسر للصهاينة" على المضي قدوما في هذا الطريق.
ومضى الجعبري قي طريق إعادة بناء كتائب القسام، مما دفع جهاز الأمن الوقائي التابع للسلطة في العام 1998م إلى اعتقاله إلى حين اندلاع انتفاضة الأقصى.
وجاءت انتفاضة الأقصى وأشعل الجعبري مع إخوانه من قادة القسام لهيب المعركة فكان المسئول عن تخطيط وتنفيذ العديد من العمليات الجهادية، عندها أصبح على رأس قائمة المطلوبين لـلكيان الصهيوني، و أطلق عليه الصهاينة لقب اسم "رئيس أركان حركة حماس" في دلالة منها إلى مكانته التي يحظى بها في الكتائب.
وتحت ضربات القسام اضطر العدو الصهيوني للانسحاب من غزة في عام 2005م، وخرج الجعبري لأول مرة متحدثا إلى الجماهير الفلسطينية معلنا أن كتائب القسام لم تسقط من حساباتها أي خيار من أجل تحرير الأسرى.
وفي تلك المناسبة خرج الجعبري ليعلن عن إستراتيجية الجناح العسكري لحركة حماس لما بعد الانسحاب، فقال: "أن قضية الأسرى من أهم القضايا الوطنية، وسنعمل على تحريرهم من سجون الاحتلال"، وأردف "وسيبقى سلاح أسر الجنود الصهاينة مشروعا طالما بقي أسير واحد في السجون".
وجاءت عملية "الوهم المتبدد" ونجت فيها كتائب القسام بأسر جندي صهيوني من قلب دبابته المحصنة في داخل موقعه العسكري، وقتها قال الجعبري "ليس أمام الاحتلال إلا أن يرضخ لمطالبنا"، وبعدها خاضت كتائب القسام العديد من المعارك مع الاحتلال من أجل تحرير الأسرى كان من أبرزها المعركة الأمنية وهي النجاح في الإخفاء والاحتفاظ به حيا، والثانية معركة المفاوضات.
"وصف المعلق الصهيوني المختص في ملف شاليط على القناة الثانية الصهيونية القيادي القسامي الجعبري بـ"الـرجل الصعب الذي لا يلين بسهولة"
"
وفي خلال السنوات الخمس التي كانت ما بين الأسر وإتمام التبادل، كان الجعبري يبعث برسائل طمأنة للأسرى ويقول لهم "أنتم في عيوننا ونقسم أننا لن ننساكم وأننا ساعون ومجتهدون إلى أن إلى الفعل الذي يوصلنا إلى تحريركم بعون الله، فأنتم في بالي دوماً أيها المعتقلون الكرام الأشاوس الذين شاركناكم هم الاعتقال وألم ومعانة السجان والسجناء".
في خلال المفاوضات أظهر الجعبري صلابة لم يعتاد عليها العدو في التمسك بحقوقه المشروعة، إذ قدم نموذجا جديدا غير من الصورة النمطية لدى العدو عن المفاوض الفلسطيني، ورفض الجعبري كافة العروض التي قدمها الاحتلال وتمسك بمطالبه المشروعة، وقال كلمته المشهورة "شلت أيماننا إن نسينا أسرانا".
العدو من ناحيته شعر بأنه أما شخصيات مختلفة عن الذين كان يفاوضهم في السابق، ووصف المعلق الصهيوني المختص في ملف شاليط على القناة الثانية الصهيونية القيادي القسامي الجعبري بـ"الـرجل الصعب الذي لا يلين بسهولة".
وبصمود الجعبري وعناده الإيجابي في المفاوضات غير المباشرة تمت صفقة "وفاء الأحرار"، انتزع من خلالها الحرية لأكثر من (1050) أسيرا، وتحرير كافة الأسيرات من السجون حيث أظهر صلابة في الإصرار على المطالب العادلة أمام التعنت الصهيوني، إلى أن اضطر العدو في النهاية للرضوخ للمطالب التي حملها.
وفي يوم التبادل ظهر الجعبري وهو يشرف بنفسه على عملية التبادل فكان بمثابة رسالة قوية للعدو الصهيوني، مفادها "أننا مستمرون في الدفاع عن قضيتنا العادلة".
أبرمت الصفقة ونال الأسرى حريتهم، وعمت الأفراح في سائر ربوع الوطن، أما الجعبري فكان متشوقاً للقاء الله، فبينما كان الأسرى يحتفلون بمرور عاما على تحريرهم كان الجعبري في بيت الله العتيق يؤدي فريضة الحج استعدادا للقاء.
واليوم ونحن نعيش الذكرى الاولى لـ " حرب السجيل " التي حطمت فيها كتائب القسام أسطورة " الجيش الذي لا يقهر " تستذكر هذا الرجل الذي كان وسام شرفه القتال في سبيل الله ودوره في هذا العمل البطولي.
ولد شهيدنا القائد في العام ألف وتسعمائة وستين من الميلاد، بين أحضان أسرة ملتزمة بتعاليم ديننا الحنيف، وفي المنطقة الشرقية لمدينة غزة، في حي الأبطال حي الشجاعية.
درس شهيدنا الابتدائية والإعدادية والثانوية في مدارس غزة، ومن ثم حصل على شهادة البكالوريوس من الجامعة الإسلامية بغزة، في تخصص التاريخ.
"يُعدّ ملف الجعبري لدى أجهزة الأمن الصهيونية دسماً بامتياز، فلائحة الاتهامات التي يضمها هذا الملف تبدأ بالمسؤولية عن جملة من العمليات النوعية ضد الاحتلال الصهيوني قبل انسحابها من قطاع غزة عام 2005
"
استهل أبو محمد حياته الجهادية في صفوف احدى الحركات الثورية، واعتقل مع بداية عقد الثمانينيات على يد قوات الاحتلال وأمضى أكثر من (13) عاماً، بتهمة انخراطه في مجموعات عسكرية تابعة لحركة فتح خططت لعملية استشهادية ضد الصهاينة عا1982م.
انتمائه للإخوان
وتحول الجعبري داخل السجن للالتزام الديني، وانتمى لجماعة الإخوان المسلمين قبل تأسيس حركة "حماس" في عام 1987، متأثراً بعدد من القادة المؤسسين لحركة المقاومة الإسلامية حماس أمثال الشهداء القادة د. عبد العزيز الرنتيسي، ود. إسماعيل أبو شنب، ود. نزار ريان، ود. إبراهيم المقادمة، وخاصة مع الشيخ القائد صلاح شحادة الذي ربطته بالجعبري علاقة حميمة استمرت بعد إطلاق سراحهما، وكانت الخطوات الأولى التي تدرج من خلالها أبو محمد في الصف القيادي لكتائب القسام.
تركز نشاط الجعبري عقب الإفراج عنه من سجون الاحتلال عام 1995، على إدارة مؤسسة النور التابعة لحركة "حماس"، والتي تهتم بشؤون الشهداء والأسرى والمحررين، ثم عمل في العا1997م، في حزب الخلاص الوطني الإسلامي الذي أسسته حركة حماس في تلك الفترة التي تعرضت فيها لضربة قوية من سلطة أوسلو.
ملاحقة السلطة
لم تشفع فترات الأسر التي قضاها شهيدنا أبو محمد في سجون الاحتلال، من الحملة التي ينفذها جهاز الأمن الوقائي التابع للسلطة في العام 1998، ظناً منهم في اجتثاث المقاومة، إلى أن أتم أبو محمد العامين في سجونهم بتهمة علاقته بكتائب القسام، وتم الإفراج عنه مع بداية الانتفاضة إثر قصف الاحتلال لمقرات الأجهزة الأمنية في القطاع.
وظلّ الجعبري ثالث ثلاثة في المجلس العسكري لكتائب القسام، إلى حين اغتال الاحتلال الصهيوني الشيخ صلاح شحادة عام 2002، وفشلت في محاولة اغتيال القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف عام 2003، والتي أصيب خلالها بـ"جروح بالغة، ليتحول معها الجعبري إلى القائد الفعلي لكتائب القسام ممثلاً لمهمة نائب "الضيف" القائد العام للكتائب في فلسطين.
بناء وتطوير القسام
أسهم أبو محمد إلى جانب إخوانه في الصف القيادي الأول، بالعمل على بناء كتائب القسام وتطوير قدراتها خلال فترة الانتفاضة بالاستفادة من الدعم والتمويل المالي الذي وضع تحت تصرف قيادتها.
وأثبت الجعبري، المعروف علناً بقائد أركان المقاومة الفلسطينية، قدرات قيادية عالية، على صعيد بناء كتائب القسام في وحدات وتشكيلات تشبه "الجيش النظامي" يضم تحت لوائه أكثر من عشرة آلاف مقاتل، ويمتلك ترسانة متنوعة من الأسلحة في اختصاصات مختلفة.
أبرز انجازاته
وأضاف أبو محمد لسجله النضالي والجهادي، انجازاً جديداً في مواجهة ومفاوضة الاحتلال بإدارته الناجحة لملف خطف وإخفاء الجندي شاليط منذ أسره في25 يونيو/ حزيران 2006 م، ومبادلته بأكثر من ألف أسير فلسطيني.
ويُعدّ ملف الجعبري لدى أجهزة الأمن الصهيونية دسماً بامتياز، فلائحة الاتهامات التي يضمها هذا الملف تبدأ بالمسؤولية عن جملة من العمليات النوعية ضد الاحتلال الصهيوني قبل انسحابها من قطاع غزة عام 2005.
وتعرض رجل "صفقة وفاء الأحرار" لمحاولات اغتيال عدة، كان أبرزها وأكثرها بشاعة في حق عائلته، تلك التي نجا منها بعد إصابته بجروح خفيفة عام 2004، بينما استشهد فيها ابنه البكر محمد، وشقيقه وثلاثة من أقاربه، باستهداف طائرات الاحتلال الحربية منزله شرق حي الشجاعية.
رحيل القائد
ربما أن الأيام الأخيرة التي عاشها أبو محمد في حياته، أثبتت وبشكل ملحوظ أنه يودع الدنيا بما فيها، فلشيخه الياسين وإخوانه الأسرى قد أوفى بوفاء الأحرار، وعلى جيشه وإخوانه في كتائب القسام قد اطمئن وتركهم في أحسن حال، وفي بيت الله بمكة قد حجّ واعتمر، حتى أصبح يتمنى الشهادة ويتمنى لقاء الله، فأحب الله لقائه، واستشهد الجعبري بقصف صهيوني غادر على سيارته في يوم الأربعاء، الرابع عشر من نوفمبر في عا2012م.
أبرز تصريحاته وأقواله
" ما دام الصهاينة يحتلون أرضنا فليس لهم سوى الموت أو الرحيل عن الأراضي الفلسطينية المحتلة"
"كتائب القسام لم ولن تسقط من حساباتها أي خيار ممكن من أجل تفعيل المقاومة وتحرير الأسرى وقهر العدو الغاصب المجرم"
"عيوننا ستبقى دوما صوب القدس والأقصى ولن تنحصر داخل حدود غزة، وإن مشروعنا المقاوم سيمتد كما كان دوما إلى كل أرضنا المغتصبة إن عاجلا أو آجلا".
لقد غاب عنا الجعبري .. لكن ما زالت صورته حاضرة في كل يوم نستذكر في هذا الإنجاز التاريخي للمقاومة الفلسطينية.