الضفة الغربية- لمراسلنا
لحظات من الصمت سبقت كلمات أحد طلبة جامعة بيرزيت عائداً بذاكرته إلى العام الماضي حين انتهت انتخابات مجلس الطلبة، ولم يستطع إخفاء نبرة الألم من صوته عندما وصف مشهد اعتقاله على يد أجهزة السلطة بعد تحقيق الكتلة الإسلامية تقدماً في عدد المقاعد التي وصلت إلى 22 من أصل 51.
ولأن ذلك المشهد في ربيع عام 2009 لن ينمحي من ذاكرته كما قال، فإن تفاصيله ما زالت تحفر الجرح كلما طرقت باب الذهن مستذكراً عددهم الهائل وسلاحهم المدجج في جنح الظلام صارخين بأعلى ما تستطيع حناجرهم :"افتح الباب"، ولكنّ الأمور التبست عليه لأنه اعتاد من جنود الاحتلال أن يقوموا بهذا الدور، فحاول الإصغاء جيداً إلى لكنتهم.. ليجدها فلسطينية بحتة.
ولم يستغرق الأمر عدة دقائق حتى تعالت طرقات الباب وبدأت عملية اقتحام المنزل والهجوم على الطالب وتقييده كأنه فريسة طال انتظارها، ومن ثم تفتيش البيت ومصادرة أوراق دراسية وكتب ومجلدات وتمزيق صور لشهداء تفخر كل الأرض بهم، أما بقايا الراية الخضراء الصغيرة التي احتفظ بها في أحد الأدراج فلم تسلم من أحذيتهم التي داست كلمات التوحيد فيها.
وبعد اقتياده إلى سياراتهم التي تحمل شعار "الأمن الوطني" والتي تعرض فيها للضرب والشتم طوال الطريق إلى زنازينهم، مكث عدة أيام في أقبية تحقيقهم، حيث بدأت هناك حكاية ألم أخرى من ظلم ذوي القربى، ففوز الكتلة الإسلامية بهذا العدد من المقاعد كان وقعه كالصاعقة عليهم حتى تحولت كل أجهزتهم للتحقيق في هذا الأمر فقط!
ويقول الطالب:" عندما بدأت أولى جلسات التحقيق كان أول سؤال موجه إلي (كيف حققتم هذا العدد من المقاعد؟)، وبالطبع كان جوابي يزعجهم بأن التوكل على الله أولا وثقة الطلبة بنا ثانياً هي السبب، وكلما كررت الجواب تعرضت لصفعة قاسية من المحقق، وبعد أكثر من 10 أيام في أقبية التحقيق تم تحويلي إلى الزنازين ومكثت هناك عدة أشهر كضريبة لانتصار الكتلة".
حمى الانتخابات
ولا يخفى على أحد أن الكتلة الإسلامية في جامعة بيرزيت كانت الوحيدة التي خاضت انتخابات مجالس الطلبة في جامعات الضفة بعد هجمة أجهزة السلطة على أنصار حركة حماس منذ عام 2007، فالكتلة الإسلامية في مختلف الجامعات آثرت مقاطعة الانتخابات منذ ذلك الوقت احتجاجاً على ممارسات فتح بحق عناصرها ومؤيديها في كل مكان وخنق نشاطاتها بسياط التعذيب.
ولعل هذا الأمر أرّق العقلية المشكوك في انتمائها الوطني التي تتبناها حركة فتح، فدأبت على تضييق الخناق على أنصار الكتلة الإسلامية وتعذيب رموزها ومحاولة النيل منهم جزاء على خدمة الطلبة التي جعلوها شعاراً يتقربون به إلى خالقهم طيلة سنين عملهم، حتى أمست أروقة الجامعة نقاط مراقبة لأبناء الكتلة وتحركاتهم ومن ثم اعتقالهم وتعذيبهم ووأد مستقبلهم الاكاديمي.
وتواصلت الانتهاكات المخجلة بحق أبناء كتلة بيرزيت، فأولئك الذين يشهد لهم كل الطلبة من مختلف التوجهات بإخلاصهم في عملهم وسعيهم لخدمتهم والإبداع في نشاطاتهم أصبحوا أجساداً معلقة في زنازين السلطة يجابهون سياطها ويُكرهون على سماع عناصرها يشتمون الذات الإلهية والعديد من الشهداء القادة الذين ما زالت أرض الضفة تحتضنهم معتزة بفعالهم.
وبهذا تحوّل أبناء كتلة العياش إلى أهدافٍ أمام أجهزة السلطة بمختلف أشكالها، تلك التي لا تحرك ساكناً عندما تجوب آليات الاحتلال محيط مقر رئيسها، أصبح الهدف الرئيسي لها مساعدة ذراعها الطلابي على الفوز في انتخابات مجلس طلبة جامعة بيرزيت التي تضم سبعة آلاف طالب، فتسلط همجيتها ضد أنصار الكتلة غير واثقة بجهود عناصرها في إمكانية تحقيق الفوز عبر إقناع الطلبة بنشاطاتهم.
المقاطعة!
وبعد تعرّض أبناء الكتلة الإسلامية للملاحقة والاعتقال على يد أجهزة السلطة ومن ثم الانتقال إلى سجون الاحتلال في تنسيق بات مكشوفاً على كل إنسان ذي عقل، قررت هذه المرة مقاطعة الانتخابات القادمة في شهر نيسان لأول مرة منذ ثلاثة عقود، متسائلة عن ماهية الديمقراطية التي تزعم السلطة انتهاجها في الضفة وهي تزج بكل من اختار المقاومة نهجاً إلى سجونها.
وبعيْد اتخاذ هذا القرار استطلعت "الرسالة" آراء بعض طلبة جامعة بيرزيت، فأحدهم اعتبر أن قرار المقاطعة سيفرغ ساحة الانتخابات لحركة الشبيبة التابعة لفتح، وأضاف:" نحن نرفض ابتعاد الكتلة الأكثر نقابية عن الساحة بغض النظر عن الضغوطات الأمنية المحيطة بها، فهي تعرضت في السنوات الأخيرة لضغط أكبر ولكنها تجاوزت كل الصعاب وخاضت الانتخابات وحققت نجاحات كبيرة".
واعتبرت الطالبة سما أن عدم مشاركة الكتلة الإسلامية سيخلي المجال لأبناء فتح كي يزيد فسادهم وبالتالي ابتزاز الإدارة والطلبة لمصالح شخصية خاصة الطالبات فيما يتعلق بالمنح الدراسية والمساعدات المالية.
أما الطالب "ت.ر" الذي ينتمي إلى القطب الطلابي الذراع الطلابي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فحمّل مسؤولية عدم مشاركة الكتلة الإسلامية في الانتخابات للسلطة الوطنية ورئيس وزرائها فياض، قائلاً إن الفلتان الأمني وحالة التوتر في الضفة التي تتمثل في اعتقال طلبة الجامعات ستؤدي إلى ضعف الحركة الطلابية وترهل الجسد الطلابي المنتج للقيادة الوطنية الفلسطينية.
وتقول الطالبة "د.ق".."في كل يوم تقريباً نرى اللوحات التي تستنكر اعتقال أحد أفراد الكتلة الإسلامية سواء على يد السلطة أو الاحتلال، ومع ذلك فإن نشاطاتها لا تتوقف، ولا أدري ما سبب كل هذا الخوف من طلبة عاديين أمثالنا ليتم اعتقالهم وتعذيبهم بهذا الشكل".
مجالس وأي مجالس؟!
"مقاطعة الكتلة للانتخابات يعني أن مجلساً آخر لحركة الشبيبة سيتم تشكيله، وهذا الأمر نرفضه بشدة لأننا جربنا مجالسهم ولا نريد لها أن تعود".. هكذا عبّر أحد الطلبة عن غضبه من قرار المقاطعة التي اتخذته الكتلة الإسلامية بسبب حنقه على مجلس الطلبة الحالي الذي تقوده فتح.
وفي معرض الحديث تؤكد مجموعة من الطلبة أن المجلس في عهد الشبيبة يتميز بالتقصير في حل مشاكل الطلبة خاصة من هم خارج إطار الانتماء الفتحاوي إضافة إلى انعدام تقديم الخدمات الإضافية لهم، كما أن إحياء الأحداث الوطنية وذكريات الشهداء يكاد يكون معدوماً بالمقارنة مع أداء المجالس التي كانت تقودها الكتلة الإسلامية.
أما حل الأزمات المالية ومشاكل الطلبة فأصبح وهماً يحشوه قادة حركة الشبيبة في بياناتهم، فتقول إحدى الطالبات إنها قرأت بياناً لمجلس الشبيبة يزعمون فيه أنهم حلوا بعض الأزمات المالية، مؤكدة أن تلك المشاكل لا وجود لها أصلاً في الوقت الذي يعجزون فيه عن حل الإشكاليات الحقيقية، وتلك ليست إلا خطوة استخفاف بعقول الطلبة.
ويقول طالب في السنة الثانية:" دخلت الجامعة وأنا أتشوق لأرى أداء الكتلة بعد مدح إخوتي الثلاثة به أثناء دراستهم في الجامعة على مدى عدة سنوات، ولكنني فوجئت بأن الاعتقالات والملاحقات أصبحت سمة تميز أبناءها وتعيقهم عن تقديم المساعدات للطلبة، ولم أجد أن أي كتلة طلابية سدت فراغ الكتلة الإسلامية الذي صنعته فتح".
وهكذا أمست كتلةٌ أنجبت الشهداء والاستشهاديين تشكو إلى الله ظلم القريب قبل البعيد، لتنضم إلى نظيراتها في جامعات الضفة تئن تحت سياط تعذيب أجهزة السلطة وجنود الاحتلال.