ما إن غرقت الشمس في بحر غزة, انطلق الطفل محمد ريحان إلى شوارع مخيم جباليا، وبدأ بجولة "تسول" على طريقته, آملًا أن يجمع بضعة شواقل ليسد رمق طفولته.
ويجوب الطفل في شوارع المخيم يوقف النساء ويطلب منهن المساعدة بإعطائه بعض الشواقل بحجة أن الوقت تأخر ومنزله بعيد ويحتاج لسيارة تقله إليه، في حين تنطق ملامح وجه أنه دخل السنة الأولى من عقده الثاني.
يقف الطفل صاحب السترة "السوداء" الممزقة" على قارعة الطريق, وحين يجد امرأة من بعيد يهرول إليها مسرعًا بعبارات توسل مصحوبة بدموعه، قائلًا "أرجوكي يا خالتي أعطيني كم شيقل حتى أروح عبيتنا".
وبعدما ينتهي محمد الذي يدرس بإحدى مدارس التابعة لوكالة الغوث, من المرأة الأولى يعود إلى زاوية الشارع ملتفتًا يمينًا ويسارًا _ خوفًا من أن يراه أحد ويكشف احتياله_ ويجلس منتظرًا امرأة أخرى تمر ليقص عليها حكايته القصيرة مجددًا.
الطفل ريحان يعيش في عائلة اجتاحها الفقر, قاطنة في الأطراف الغربية من مخيم جباليا الواقع شمال غزة, مكونة من خمسة أطفال غيره ترعاهم الأم, نظرًا لما يعانيه والده من مرض مزمن افقده القدرة على الحركة.
مراسل "الرسالة نت" تواجد مصادفة في المكان ولاحظ تردد الطفل على المارة, حيث كان يوقفهن وعينيه الصغيرتين تملؤهما الدموع, ما دفعه لإيقاف الطفل وسؤاله عن سر البكاء.
ويقول محمد وعلامات الخوف رُسمت على وجهه ذي البشرة السمراء, إنه كان يوقف المارة لإعطائه مبلغًا من المال ليعود إلى مسكنه.
مراسل "الرسالة نت" ألح بسؤاله على الطفل عما يفعله بعدما اكتشف أن كلامه يوحي بكذبه, مما أوقعه في مأزق ليفصح بعدها عن سر إيقافه للنساء في الطريق.
وبعد جمع الطفل ريحان للمال يتوجه إلى أقرب "سوبر ماركت" ليشتري ما تشتهي نفسه من السكاكر والحاجيات لأخوته الصغار.
ويستخدم محمد هذه الطريقة في التسول هربًا من أن يقدم على السرقة, مضيفًا: "التسول أهون من السرقة, وتعلمت من أمي أنه من يسرق يعاقبه الله".
ولم تخنه الذاكرة في تذكر سرقته لمحفظة عمته وأخذ منها مبلغًا بسيطًا، ليكتشف أمره ويتلقى وقتها ضربًا مبرحًا من والدته.
لم يكن "ريحان" الطفل الوحيد الذي يغرّد خارج السرب ويقدم على التسول، فنجد الكثير من الأطفال من يبتدع وسائل عدة للتسول.
وخلال أحاديث أجرتها "الرسالة نت" مع مواطنين بشوارع غزة, وجدت أنه خلال سيرهم في الطرقات يتعرضون لأطفال متسولين يحادثوهم بقصص محزنة لكسب قلوبهم وإعطائهم ما يطمحون إليه.
وأشارت دراسة أعدها الباحث القانوني كارم نشوان والباحث الاحصائي خليل مقداد لمؤسسة الضمير لحقوق الانسان إلى أن 65.7% من الأطفال المتسولين يمارسون السرقة قبل عملية التسول.
وتشير الدراسة إلى أن 65.3% من الأطفال المتسولين تراوحت مدة تسولهم من (1-5) سنوات، ما يعطي مؤشرًا على أثر الحصار (الإسرائيلي) على الطفل الغزي.
وأوضحت نتائج الدراسة أن 27.7% من الأطفال يشرعون بالتسول في ساعات الليل.
في الوقت الذي أصبح فيه التسول مهنة يُبدع فيها الكثير من الأطفال، بات أمرًا مقلقًا ينذر غزة مستقبلًا أنه سيكون من الأجيال المقبلة متسولين بارعين.