يتكبل الاقتصاد الفلسطيني بقيود الاحتلال الاسرائيلي والاتفاقيات المبرمة معه ويتعقد وضعه مع تزايد تعقيدات الوضع السياسي الجاثم على صدر الاقتصاد الناشئ والهش, وخاصة في قطاع غزة الذي يواجه تحديات كبيرة أهمها الحصار المتحكم في جميع مناحي الحياة فيه, الى جانب قلة الفرص المتاحة امامه للنهوض باقتصاده ما لم تتحقق اختراقات سياسية تؤدي لانفراجه حقيقية.
في العام 2013 انقسم الوضع الغزي الى قسمين: الأشهر الستة الاولى منه شهدت تحسنا كبيرا في ظل تكثيف عمل الانفاق وادخال كميات هائلة من مواد البناء التي تعتبر الترس الاساس في أي حركة اقتصادية وبدأ تنفيذ المشاريع القطرية التي ساهمت في تحقيق نمو اقتصادي واضح, الا ان الانقلاب العسكري المصري في الثالث من يوليو الماضي ادى الى تدمير الانفاق وعودة الحصار الى المربع الاول.
"الرسالة" حاولت استشراف افق الاقتصاد الفلسطيني في العام الجديد بناء على مؤشرات سابقة من خلال ندوتها الدورية "في قاعة التحرير" بعنوان "الاقتصاد الفلسطيني 2014 التحديات والفرص".
نمو رغم الحصار
النهوض بالاقتصاد الفلسطيني في ظل الوضع الحالي مهمة صعبة بالنظر الى مخرجات العام الماضي والبيانات النهائية التي صدرت عنه, حيث ان الارقام تشير الى تفاقم الازمة اذا لم يحدث اختراق حقيقي سواء على الصعيدين السياسي او الاقتصادي.
مدير العلاقات العامة في الغرفة التجارية بقطاع غزة د. ماهر الطباع بدأ حديثه في ندوة الرسالة بتوقعات كارثية على الصعيد الاقتصادي للعام الحالي, في حال استمرار الوضع على ما هو عليه.
ولفت الطباع الى انه رغم الحصار والاستهداف المستمر للقطاعات الاقتصادية الغزية الا انه حدث نمو للناتج الاجمالي المحلي للقطاع شهدت له جميع المؤسسات الدولية.
واعتبر ان ارقام النمو في قطاع غزة مذهلة مقارنة بصغر مساحته وحصاره وكثافته السكانية وتعرضه المستمر للحروب والكوارث, موضحاً أن النمو الاقتصادي بدأ يظهر بعد احداث مرمرة حيث اعطى الاحتلال الاسرائيلي نوعا من التجميل للحصار.
وبين ان الاحتلال ابقى على محركات العجلة الاقتصادية في قائمة الممنوعات واهمها الحديد والاسمنت والحصمة, مشيراً الى ان هذه الاجراءات ساهمت في التخفيف من الضغط على الانفاق التي ركزت جل عملها على ادخال المواد الممنوعة من الجانب الاسرائيلي واهمها مواد البناء والمحروقات.
الاشكالية ليست في الحصار فقط وانما في المنظومة التي أجبرت الاقتصاد الفلسطيني ان يدور في فلكها وهي الانفاق الحكومي واستمرار التدفق المالي الناتج عن القطاع العام.
وجهة النظر تلك يتبناها رئيس المركز الأورومتوسطي لحقوق الانسان د. رامي عبدو والذي يعتقد بأن الحصار لم يضر بالاقتصاد الفلسطيني بشكل هدام لان التغير من العام 2006 وحتى اليوم ليس دراماتيكي.
وعلى صعيد الجهود المبذولة لفك الحصار شدد عبدو على أنها أصبحت متأخرة ولم يعد هناك ذات الحماسة, لأسباب كثيرة اهمها الوضع الاقليمي, وان الحصار لم يعد قضية راي عام في الشارع الفلسطيني الذي يعتمد عليه التحرك الخارجي بالدرجة الاولى.
وبين عبدو ان القطاعات الاقتصادية في غزة لديها قدرة كبيرة على التكييف وهي ميزة ومشكلة في ذات الوقت, لان الاقتصاد بات عاجزا على الابداع والابتكار للخروج من الازمة.
ولفت الى ضرورة اعادة تعريف عناوين الحصار وتقديم مفردات جديدة له, موضحاً أنه يوجد اجتماعات شهرية للتحالف الدولي لأسطول الحرية لكن الجهود لم تسفر عن نتائج خلال الاشهر الماضية لأسباب لها علاقة بالتمويل والبعد الدولي واحداث مصر.
دينامو الاقتصاد
المتغيرات السياسية في المنطقة وخاصة مصر انعكست بشكل كبير على الوضع الاقتصادي في قطاع غزة الذي بات يعاني دون ان يلتفت اليه احد من الدول العربية المنشغلة بأزماتها الداخلية, بل أصبح البعض يبرر هذا الحصار ويطالب بتشديده بحجة أن اسرائيل هي المسئولة عن توفير الاحتياجات لسكان القطاع.
وفي هذا السياق قال الطباع " دخول مواد البناء عبر الانفاق ساهم في اعادة احياء قطاع الانشاءات الذي بدوره اعاد العجلة الاقتصادية للقطاع مجدداً وخفض معدلات البطالة الى ما قبل الحصار, بجانب المشاريع القطرية التي دخلت مرحلة التنفيذ مع بداية 2013 , وهو ما جعل الجميع يتفاءل بان غزة سوف تخرج من الركود الاقتصادي لكن احداث مصر واغلاق الانفاق قتل هذا التفاؤل".
واعتبر ان الكارثة تكمن في توقف قطاع الانشاءات بالكامل نتيجة اعتماده على ما يدخل من الانفاق, حيث ساهم هذا القطاع في الناتج المحلي الاجمالي في النصف الثاني للعام 2013 بحوالي 27% قرابة 135 مليون دولار.
ونوه الى ان توقف الانشاءات عطل الكثير من الانشطة التجارية والاقتصادية والمهن المساندة له وهذا ادى لخفض انشطة الاقتصاد بنسبة 60% الى جانب انقطاع المحروقات المصرية التي مست كل مناحي الحياة في غزة.
السياسة دينامو الاقتصاد في كل العالم الذي بدأ يدرس بدقة الاقتصاد السياسي لتحقيق أي نمو او طفرة, وفي ظل الحديث عن بلد محتل مثل فلسطين لا يمكن ان يكون اقتصادها بمعزل عن وضعها السياسي الهش.
الحديث عن الاقتصاد في فلسطين يعني السياسة التي دفعت اسرائيل بمجرد احتلالها للضفة وغزة عام 1967 لفتح اسواقها للعمالة الفلسطينية وهو امر ترك تداعيات كبيرة على القطاعات الإنتاجية الفلسطينية التي توقف معظمها في ذلك الوقت, بحسب عبدو.
وقال " لسنا امام اقتصاد مستدام ما دمنا تحت الاحتلال وفي احسن الحالات يمكن ان نصل الى الاقتصاد "الفرخ".
واعتبر عبدو ان هذه السياسات لها بعد سياسي جوهري الغرض منه ان يبقى الاقتصاد الفلسطيني مرتهن بالقرار الاسرائيلي, وهذا الأمر تطور الى ان اتفاقية أوسلو التي اخذ الارتهان فيها شكلا جديدا من خلال الربط الجمركي والاقتصادي.
وأوضح رئيس الاورومتوسطي ان الاحتلال ارتهن الاقتصاد الفلسطيني بشكل جديد وغير مباشر عبر بوابة الانفاق الحكومي على الرواتب والمؤسسات الحكومية, فقد كانت موازنة السلطة في العام 2000 مليار دولار منها فائض, بينما اليوم تتجاوز اربعة مليارات دولار بعجز يفوق 65% وبالتالي ارتهان كامل ليس فقط للقرار الاسرائيلي وانما للغربي ايضاً.
قطط سمان
حديث الخبراء عن الحصار والوضع الاقتصادي فتح الباب امام الكثير من التساؤلات كان اولها سؤال حول تعليق جميع الازمات على شماعة الحصار في حين ان اقتصاد الضفة يعاني.
د. عبدو استهل اجابته بأن الحصار ليس السبب الاساس في ازمة الاقتصاد الفلسطيني بدليل المؤشرات السيئة الذي يعطيها الاقتصاد في الضفة, حيث تعاني من حصار مختلف يتمثل في سوق العمل والمسوح به والحواجز التي تقطع اواصر الضفة والتهرب الضريبي, وهذا يعطي دلالة واضحة على ان الاشكالية في حرب اقتصادية مفتوحة من الاحتلال مقابل فشل المسئول الفلسطيني الذي يتعامل بسياسات اقتصادية ومالية عقيمة.
ولفت الى وجود قصص نجاحات اقتصادية في غزة اكثر من الضفة, حيث أن العام الماضي حققت غزة نمو 16% وهي النسبة الاعلى في المنطقة وربما في العالم بينما الضفة قدمت نمو 3%.
وشدد على وجود خلل واضح في التعامل الحكومي مع المنظومة الاقتصادية في الضفة والقطاع, مؤكداً أن الحكومة في غزة تجبي الضرائب من المواطن البسيط بينما تترك القطط السمان.
وقال عبدو " شركات القطاع الخاص بعضها يحقق ارباحا خيالية مثل جوال التي حققت في الربع الثالث من العام الماضي قرابة 90 مليون دولار, وايراداتها من قطاع غزة شهرياً 50 مليون شيكل, بمعنى انها حصلت في سنوات الانقسام على مبلغ مليار و200 مليون دولار ولو دفعت ضرائبهم لحكومة غزة ستحل جزءا كبيرا من ازمتها المالية".
وتابع " بنك فلسطين يحصل على ايراداته الرئيسية من غزة ولذلك على الحكومة ان تضغط للوصول لتفاهمات مع هذه المؤسسات", مطالباً بإعادة تفكير من الحكومة بطريقة التعامل مع القطاع الخاص.
وبين ان سلطة النقد الفلسطينية تعطي نسبة تسهيلات على الودائع لا تتجاوز 50%, يذهب 35% منها لصالح سلطة رام الله قروض, بينما في دولة مثل مصر تفوق التسهيلات 90%, وهذا يعني ان هناك اشكالية في فلسفة البنوك التي لا تلعب دورا في دعم الاقتصاد الفلسطيني.
وأوضح ان التسهيلات البنكية المقدمة للقطاع الصناعي ضعيفة جداً, لافتا الى ضرورة الضغط على البنوك لتقديم تسهيلات على جميع الاصعدة واهمها خفض قيمة الفائدة على القروض مما يشجع المستثمرين واصحاب المشاريع على تحريك عجلة الاقتصاد وبالتالي تحقيق ايرادات اكثر للحكومة.
السلام الاقتصادي
دور القطاع الخاص في مواجهة التحديات الاقتصادية في العام 2014 وامكانية العمل بالتوافق مع المستوى الحكومي لتجنب الاضرار المتوقعة تساؤل رد عليه المسئول في الغرفة التجارية د. الطباع بالتأكيد على ان الادوات الموجودة محدودة جداً, لان الاحتلال هو المتحكم الوحيد.
ولفت الى ان الاحتلال طبق سياسته باغلاق جميع المعابر وتحويل كرم ابو سالم الى مجمع معابر لقطاع غزة.
وأشار الى ان الامين العام للأمم المتحدة بان كي مون استجدى اسرائيل لإدخال مواد بناء لاستكمال بعض المشاريع الخاصة بالأونروا والتي على وشك الانتهاء, وهذا يعكس مدى التعنت الاسرائيلي وعدم وجود قرار دولي او اممي بفك الحصار.
واعتبر الطباع ان السنوات الاخيرة في الضفة شهدت تدهورا كبيرا حيث ان مؤشر البطالة بحسب الربع الثالث من العام 2013 تجاوز في غزة 32% بينما في الضفة 19% والفرق في هذه النسبة هي مئة وخمسة الاف عامل يعملون في الاراضي المحتلة لو اغلقت اسرائيل ابوابها امامهم ستفوق نسب البطالة غزة, رغم ان كل المشاريع التي كانت مرصودة لغزة في السنوات السابقة نفذت في الضفة.
بدوره أكد د. عبدو انه لا يوجد أي جهة في العالم معنية بفك الحصار عن القطاع, مطالباً بتصعيد المقاطعة الاقتصادية مع الاحتلال الذي بدأ يتضرر بشكل كبير منها وأدت لتداعيات كبيرة, حيث ان مستوطنات الاغوار البالغ عددها 21 تتحدث عن انخفاض في ايراداتها 40% بسبب المقاطعة.
التساؤلات تضمنت الحديث عن خطة كيري الاقتصادية وتأثيرها على الاقتصاد الفلسطيني والتي يرى الطباع بأنها مجرد مسكن للاقتصاد, مشيرا الى انها تستهدف القطاعات الحيوية مثل الطاقة والزراعة وتكنولوجيا المعلومات والصناعة والسياحة وقطاع الإنشاءات.
وقال الطباع " الخطة اعدت بعيداً عن اصحاب الشأن ولم تعرض على القطاع الخاص وتبلغ في مجملها 4 مليار دولار ولم تتحدث عن مشكلة السلطة والعجر في موازناتها ".
وبين ان الخطة تأتي لتمرير حل سياسي واذا لم يكن هناك استقرار طويل الامد ستبقى حبرا على ورق, متطرقاً الى المساعدات التي حصلت عليها السلطة منذ انشائها والمقدرة بـــ21 مليار دولار, ورغم ذلك لم يحدث أي تطور اقتصادي أو تنمية مستدامة.
رئيس الأورومتوسطي د. عبدو من جهته رأى أن الخطة لا تستهدف القطاع الخاص في فلسطين وانما تتحدث عن الشركات العالمية الكبرى التي ستعمل مع كبار رجال الاعمال والقطط السمان في فلسطين.
ومن المتوقع ان يستمر الوضع الاقتصادي على ما هو عليه اذا لم يحدث اختراق سياسي يؤدي لحلحلة الوضع الاقتصادية, الى جانب تغيير بعض السياسات الحكومية خاصة اتجاه بعض الشركات في القطاع الخاص.