الوضع الصعب الذي تعيشه حركة حماس بعد أن تركت سوريا، وبعد الانقلاب العسكري في مصر، جعل بعض أصوات الناقدين والشامتين تتعالى متهمة حماس بانتهاج سياسات خاطئة أدت إلى عزلتها وضعفها، ومطالبة (حسبما وصفه بعضهم) هذا ’الابن الضال’ إما بالعودة إلى حضن ’المقاومة والممانعة’ المتمثل في سوريا وإيران، وإما بالعودة إلى حضن ’الشرعية الفلسطينية’ التي يقودها الرئيس عباس.
والطريف أنه بالرغم من أن مسار المقاومة والممانعة، ومسار الاعتدال والتسوية هما مساران متعارضان، إلا أننا نجد أصواتا محسوبة على الطرفين تنعى على هذا ’الابن الضال’ الطريق الذي يسلكه، وهي بذلك تعترف عمليا باستقلالية حماس عنهما وأنها تنتمي لمدرسة ثالثة لا يسعد الطرفين صعودها.
هناك ثقافة منتشرة في منطقتنا العربية تميل إلى التسطيح والتبسيط، وتبني فهمها للآخر على أساس ’إما معنا وإما علينا’.
وهناك ثقافة أخرى تبني مواقف الدول والأحزاب والحركات على أساس المصلحة والمنفعة فقط، ولا تضع بالا لمعايير القيم والأخلاق والمبادئ. وربما كان جانب من هاتين الثقافتين مُحقا، بسبب ما يُلاحظ من انتشار السلوك السياسي القائم على الانتهازية والنفعية. غير أنه لا ينبغي وضع الجميع في سلة واحدة من المعايير والتعميمات.
والذين تعاملوا مع حماس على هذا الأساس، تعاملوا معها كحركة وظيفية تابعة إما للجيب الإيراني أو السوري أو القطري، بحسب ما تقتضيه المصلحة، ولم يتعاملوا معها كحركة تحرر وطني، ولا كحركة إسلامية لها مبادئها وأخلاقياتها ومرجعيتها.
والذين يُبَسطون الأمور ويشوهون الحقيقة لا ينظرون إلى المنظومة الفكرية التي تحكم حماس، ولا إلى قاعدتها الشعبية الواسعة، ولا إلى دورها الوطني والجهادي، ولا إلى شهدائها وأسراها.
ويرون في تقاطع العلاقات أو المصالح بين طرف وآخر دليل إدانة أو دليل تبعية، ولا يستطيعون أن يفرقوا بين خطين متوازيين متفقين في الاتجاه، وبين خطين بمسارين مختلفين تقاطعا في نقطة معينة ثم أكمل كلُّ منهما مساره في الاتجاه الذي حدَّده.
لم تكن حماس عندما حدثت الثورات والتغيرات في العالم العربي، تنتقل من حضن إلى حضن، ولم تكن ذلك الولد الضال الذي أساء الحسابات وأغضب أباه!! ولكنها كانت منسجمة مع نفسها ومع خطها الإسلامي والوطني والشعبي والتحرري. انحازت حماس إلى إرادة الشعوب وإلى حقها في التحرر وصناعة قرارها ونظامها السياسي.
لم تفرق حماس بين إرادة الشعب في مصر وبين إرادته في سوريا أو أي بلد آخر. وربما كانت هذه ’خطيئتها الأولى’ فقد كان مطلوبا منها في محور ’المقاومة والممانعة’ أن تقف إلى جانب الإرادة الشعبية في مصر وتونس، ولكن ليس إلى جانب هذه الإرادة في سوريا.
وكان مطلوبا منها في ’محور الاعتدال’ أن تقف إلى جانب الإرادة الشعبية في سوريا، ولكن ليس إلى جانب الإرادة الشعبية في مصر وتونس، غير أن طرفي الممانعة والاعتدال كلاهما لم يكونا يرغبان بهذه الإرادة الشعبية في اليمن، حتى لا يضيع نظام علي عبد الله صالح بالنسبة لمحور الاعتدال، وحتى لا تضيع مكاسب الحوثيين بالنسبة لمحور ’الممانعة’.
أما ’الخطيئة الثانية’ فهو انتماء حماس إلى ما يعرف بـ’الإسلام السياسي’ الذي برز كمحرك للثورات (في البيئة العربية السُنيَّة)، كما برز كخيار أول للجماهير، وكنقيض للأنظمة الفاسدة والمستبدة، وهو ما جعل ما تبقى من أنظمة تبذل ما لديها من أموال هائلة، وآلات إعلامية قوية وواسعة التأثير في شيطنة ’الإسلام السياسي’ وتقديم صورة سوداوية عنه، وإدخال حماس في عملية التشويه الممنهج، باعتبارها جزءا من هذه المدرسة المنتمية إلى خط الإخوان المسلمين. وهو ما لقي بالتأكيد ترحيبا غربيا وإسرائيليا.
الذين يتحدثون عن ’نفعية وانتهازية’ حماس، يغمضون أعينهم عن حقيقة أنه عندما خرج آخر قيادات حماس من سوريا في أوائل سنة 2012، لم يكن الإخوان قد فازوا في الانتخابات في مصر، كما لم تكن الثورة قد أخذت شكلها الواسع في سوريا.
ولم يكن الحصار قد رُفع عن قطاع غزة، كما أن برنامج المصالحة الفلسطينية لم يكن منفذا على الأرض، فقد دفعت حماس ثمن مواقفها وانحيازها لخيارات الشعوب قبل أن تحصل على شيء من ’المغانم’.
وكان الثمن المادي الذي دفعته حماس بخروجها من سوريا كبيرا، فقد تشتتت قيادتها في قطر ومصر وتركيا ولبنان وغيرها، وتعقدت إمكانات إدارتها للعمل ومتابعته، وخسرت الجانب الأكبر من الدعم الإيراني، بينما عانت من غضب وبرود دول خليجية.
وبالتالي فإن الحديث عن الانتهازية والنفعية ليس في محله. وهي عندما خرجت من سوريا دفعت فاتورة رفضها أن يستخدم وجودها كغطاء للسلوك الأمني للنظام تجاه شعبه.
كما أنها لم تخرج خروج ناكر الجميل، فقد عملت قيادتها في الأشهر الأولى ليل نهار لمحاولة الوصول إلى حل سلمي داخلي، يجنب دخول السوريين في حرب أهلية ويجنب سوريا التدخل الخارجي.
ثم إن الجميل الذي حصلت عليه حماس في سوريا لم يكن جميل النظام فقط، الذي سمح لها بالعمل وحرية الحركة، وإنما جميل الشعب أيضا الذي احتضنها وأحبها ودعمها ووقف إلى جانبها، هذا بالإضافة إلى أن حماس أصرت على عدم التدخل في الشأن الداخلي السوري.
ثم إن من يدعم قضية فلسطين والقوى الوطنية والإسلامية العاملة لها إنما يقوم بواجبه، وعليه ألا يتوقع شراء ولاءات لمواقف وسياسات تعارضها هذه القوى.
إن جوهر قضية فلسطين هو ’الحرية والتحرير’، وتحقيق إرادة الشعب الفلسطيني على أرضه، وتحرره من الاحتلال، ولا ينبغي لأحد أن يتوقع أن تقف القوى العاملة لفلسطين مع قوى تعادي إرادة شعوبها.
وبشكل عام فإن الحليف الإستراتيجي الحقيقي لفلسطين كان الشعوب وليس الأنظمة، والشعوب تبقى والأنظمة تزول وتتبدل. والذي يريد أن يُحرر الأرض عليه أن يُحرر الإنسان أولا.
أما لماذا سكتت حماس عن الأنظمة التي تستضيفها وعن ممارساتها، فقد كان ذلك انسجاما مع عدم تدخلها في الشأن الداخلي، وعدم وجود ثورة شعبية أصلا.
أما عندما حدثت الثورة وأصبح من المحتمل أن تستخدم كغطاء لشرعنة النظام وسلوكه الأمني، فقد اضطرت لاتخاذ القرار، انحيازا لإرادة الشعب، ولكن دون التدخل في الشأن الداخلي.
ولم يكن بإمكان حماس أن تعمل لفلسطين من خارج كوكب الأرض. وكانت الواقعية وفقه الأولويات يقتضيان التعامل مع البيئة العربية المتداخلة والمعقدة المحيطة بفلسطين المحتلة، من خلال البحث عن نقاط التقاطع والاتفاق فيما يخدم قضية فلسطين.
ثم إن حماس حافظت على استقلاليتها، ولم تُخفِ هويتها أو تخجل من مشروعها الإسلامي والوطني في أي لحظة، ولم تتردد في نصح الأنظمة والاتجاهات المختلفة عندما كان يتاح لها المجال أو الفرصة لذلك.
من جهة أخرى، سعت محاولات تشويه حماس وشيطنتها، والتي شاركت فيه وسائل إعلامية مؤثرة مصرية وخليجية وتابعة للسلطة في رام الله (محسوبة على محور ’الاعتدال’)، إلى تقديم حماس كطرف يصارع من أجل السلطة، ويتدخل في الشأن الداخلي المصري ويعبث في أمن مصر، ويعطل المصالحة، ويقمع المواطنين في غزة، بل ويحمي الحدود مع الكيان الإسرائيلي من خلال منع عمليات المقاومة.
وبالتالي فإنه يجب ’تأديب هذا الابن الضال’، وعليه أن يدخل في ’بيت الطاعة’ بقيادة أبي مازن، وأن يسير في المسار الذي اختطته لنفسها دول ’الاعتدال’ العربي، حتى تتحقق له ’الهداية’.
ولذلك قام هذا المعسكر بتبرير الحصار العربي لقطاع غزة، وتبرير تدمير الأنفاق والخنق الممنهج للقطاع، وتبرير التماهي مع الحصار الإسرائيلي للقطاع والتساوق مع الأجندة الإسرائيلية في إسقاط الحكومة التي تقودها حماس، وكأنه فعل وطني قومي لحماية أمن مصر، وتبرير المعاناة الهائلة التي يتسببون بها لنحو مليون و700 ألف فلسطيني، وحرمان القطاع من احتياجاته الأساسية وحرية حركة أبنائه، باعتبار ذلك مجرد إجراءات احترازية.
والذين لا يكفون عن تقديم لوائح الاتهام ضد حماس لم يقدموا دليلا واحدا جادا على ’عبث’ حماس في أمن مصر، لكنهم كانوا يتنقلون من تهمة إلى أخرى، ومن إشاعة أو كذبة إلى التي تليها، دونما تحقُّق أو إثبات.
فلم يكن المطلوب هو الأدلة، وإنما شحن الإنسان العربي بصور سوداوية متتالية عن حماس والإخوان، لتبرير كافة إجراءات الحصار والقتل والإسقاط والتركيع التي تقوم بها الأنظمة وأجهزتها العسكرية والأمنية، بالتوافق مع الأجندة الإسرائيلية الأميركية في المنطقة.
وفي هذا السياق، فقد كان الحكم الذي أصدرته محكمة القضايا المستعجلة والقاضي بحظر أنشطة حماس في مصر ومصادرة ممتلكاتها، نموذجا بئيسا ومسيئا للقضاء المصري ولقادة الانقلاب في مصر، خصوصا إذا علمنا أن المحكمة هي غير ذات اختصاص بهذا الأمر، وأن الأدلة المقدمة لا تعدو تقارير إعلامية تحريضية ملفقة.
أولئك الذين يبيعون لحماس دروسا في الوطنية، لا يعلنون للناس أن جوهر عملية الضغط عليها يقوم على أساس قبول حماس شروط الرباعية الدولية، وأولها الاعتراف بالكيان الإسرائيلي وثانيها وقف المقاومة أو ’نبذ الإرهاب’، وثالثها الالتزام باتفاقات أوسلو وما تلاها من التزامات تجاه الكيان الإسرائيلي.
أي إنهم منشغلون بجر حماس إلى مسار التسوية السلمية وإلى مربع التنازل عن الثوابت الفلسطينية، دون أن يتحدثوا هم أنفسهم عن خروجهم من مستنقع اتفاقيات أوسلو، وما جرته على قضية فلسطين من ويلات.
وأولئك الذين يتحدثون عن ’خروج’ حماس عن الشرعية الفلسطينية، وعن ضرورة عودة ’الابن الضال’ إلى أحضانها يحاولون إغماض أعينهم وأعين الجماهير عن الأسلوب الانتقائي الكيفي الذي يستخدمونه في تعريف الشرعية.
فكيف تخرج حماس عن الشرعية وهي الجهة التي فازت بأغلبية ساحقة بها في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، ولماذا يقوم أبو مازن ومؤيدوه في فتح منذ نحو سبع سنوات بتعطيل عمل المجلس التشريعي؟ ولماذا لم تعد إليه لأخذ الشرعية لحكوماتها في رام الله منذ 2007 وحتى الآن؟
ولماذا أيضا تواصل الجهة نفسها احتكار السيطرة على منظمة التحرير، وتعطيل أو إضعاف مؤسساتها التمثيلية والشعبية والتنفيذية؟ وإذا كانت حماس هي التي تقود الحكومة، وتملك الأغلبية التشريعية، فما حاجتها لأن تقوم بـ’الانقلاب’ على نفسها؟
يساوي بعض من يعزف على حكاية ’الابن الضال’ بين مطاردة السلطة في رام الله لقوى المقاومة وتنسيقها الأمني مع الجانب الإسرائيلي وبين منع حماس بعض الفصائل الفلسطينية من إطلاق صواريخها على الجانب الإسرائيلي، ويدَّعون أن حماس ’تحمي الحدود الإسرائيلية’.
ويخلط هؤلاء عن عمد بين منظومة قائمة في جوهرها على الالتزام بمشروع التسوية وقمع قوى المقاومة، وبين منظومة قائمة في جوهرها على المقاومة وترعى بناها التحتية، وتُطوِّر أسلحتها، وتتيح حرية العمل للفصائل المسلحة، وأثبتت جدارتها في الدفاع عن قطاع غزة، وفي ضرب العمق الإسرائيلي، غير أنها تحاول تنسيق العمل المقاوم وتعزيز صمود القطاع، وتوفير شروط أفضل للعملية التنموية في ظل الحصار.
ولماذا ’يكافئ’ الكيان الصهيوني حماس على ’حماية’ حدوده بالحصار الخانق وبالحملات العسكرية، وباغتيال القادة، وتدمير البنى التحتية والمزروعات والمنازل؟
نعود لنقول إن السر في الحملة على حماس أنها رفضت أن تكون تحت جناح أحد أو أداة من أدواته، أما تحديد الجهة التي ضلَّت طريقها فينبغي أن يكون على أساس:
- مدى التزامها بمبادئها وقيمها وعدم تنازلها عن الثوابت.
- مدى التصاقها بالجماهير وهمومهم وتطلعاتهم.
- مدى أدائها على الأرض في خدمة فلسطين.
بالتأكيد فإن حماس، مثل أي جهد بشري، لها أخطاؤها وتقصيراتها وعناصر ضعفها، ولكن هناك فرقا كبيرا بين أن تخطئ أو تتعثر وأنت تسير في طريق صحيح، وبين أن تصيب أحيانا وأنت تسير في طريق خاطئ.
وأنت عندما تسلك سلوكا واقعيا (وليس عدميا) في بيئة معادية ومعقدة، فقد تضطر لاختيار أخف الضررين، وقد تتوسع في دوائر المباح، كما قد تبحث عن أفضل البيئات المناسبة للعمل دون أن تجد بيئة مثالية. لكن الأهم أن يبقى اتجاه البوصلة صحيحا.