الرسالة.نت-وكالات
حين بدأت أكبر الاقتصادات العالمية تخرج في الربع الثاني من 2009 من ركود هو الأقسى منذ الحرب العالمية الثانية وربما منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي, سادت أسواق العالم موجة من التفاؤل بأن الأزمة ولت إلى غير رجعة.
بيد أن نسق نمو الاقتصادات الرائدة الذي يغلب عليه التذبذب، واستمرار البطالة عند مستويات عالية, وبقاء مخاطر النظام المصرفي دون علاج جذري, وتشكل ملامح أزمات جديدة من قبيل أزمة الديون والموازنات في منطقة اليورو، يطرح تساؤلات عن حقيقة الانتعاش الاقتصادي العالمي واستدامته ويفاقم الخشية من العودة إلى المربع الأول: مربع الأزمة.
كانت الأزمة المالية التي تفجرت في خريف 2008 قد أنهكت أقوى الاقتصادات العالمية وعلى رأسها اقتصادات الدول الصناعية السبع (الولايات المتحدة واليابان وكندا وبريطانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا) وعرضتها لانكماشات حادة في 2009.
ولأن الأزمة المالية انطلقت منها قبل أن تجتاح دول العالم الأخرى, فقد كانت الولايات المتحدة بين الدول الأسرع تأثرا بالأزمة التي عصفت بنظامها المصرفي حيث انهارت مصارف ومؤسسات مالية كبيرة مثل ليمان براذرز.
واضطرت الحكومة الاتحادية أواخر 2008 و2009 إلى ضخ مئات مليارات الدولارات لمنع انهيار ذلك النظام المصرفي مما فاقم العجز في الموازنة الاتحادية الذي ورثه الرئيس باراك أوباما من سلفه جورج دبليو بوش, والذي فاق 1.5 تريليون دولار.
ومع أن الركود في أميركا بدأ في الواقع نهاية 2007, فإن الأزمة المالية فاقمته فانكمش في الربع الأخير من 2008 بنحو 6% ثم انكمش في 2009 برمته بنحو 2.5%. وبسبب الانكماش قفز معدل البطالة في العام ذاته فوق 10% ليبلغ أعلى مستوى منذ أكثر من ربع قرن بينما تجاوز عدد العاطلين 15 مليونا.
وبسبب الأزمة المالية أيضا, انكمش اقتصاد منطقة اليورو -التي تضم الاقتصادات الرئيسية في أوروبا مثل فرنسا وألمانيا- بنسبة 4% مما رفع أيضا معدل البطالة إلى مستوى 10%.
وكانت بريطانيا العضو في الاتحاد الأوروبي أيضا من ضحايا الأزمة إذ انكمش اقتصادها في 2009 بمعدل فوق 4.5%.
أما اليابان -ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد أميركا- فنالت أيضا نصيبها من الركود فانكمش اقتصادها في 2009 بنحو 3%, ولم يعد مستبعدا أن تنتزع منها الصين مركزها كثاني أكبر اقتصاد عالمي.
لما استأنفت اليابان النمو في الربع الثاني وأميركا والدول الرئيسية بأوروبا مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا في الربع الثالث, كانت تلك القوى الاقتصادية قد دفعت ثمنا باهظا لسياسات التحفيز المالي التي تبنتها للتغلب على الركود.
وفضلا عن أن ذلك النمو سيظل هشا برأي مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي, فإن إنفاق تريليونات الدولارات لإنقاذ الأنظمة المصرفية وتنشيط الاقتصادات الوطنية ترك أثرا سلبيا عميقا من جهة مفاقمة الديون الحكومية والعجز في الموازنات، وهو ما تشهد عليه الآن الأوضاع المالية الصعبة ليس لمنطقة اليورو فحسب وإنما أيضا لأميركا وبريطانيا.
وعلى سبيل المثال, كان يفترض أن تتسارع وتيرة النمو في منطقة اليورو بعد خروجها من الركود في الربع الثالث من 2009 بمعدل نمو 0.3%.
لكن الذي حصل هو أن النمو تراجع في الربع الأخير من العام ذاته إلى 0.1%، وفقا لأحدث بيانات وكالة الإحصاء الأوروبية (يوروستات).
ووفقا لتقديرات المفوضية الأوروبية, يفترض أن لا يزيد معدل النمو السنوي بالمنطقة في 2010 عن 0.7% وعن 1.5% في 2010.
وربما بات بلوغ ذلك المستوى من النمو موضع شك مع اشتداد أزمة الديون والعجز الكبير في الموازنات, وبقاء دول مثل إسبانيا واليونان في دائرة الركود في الربع الأخير من 2009.
وبالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي –أكبر اقتصاد عالمي- فإن معدل النمو المرتفع الذي بلغ 5.9% في الربع الأخير من 2009 وسمح له بتجاوز الركود في الربع الثالث من العام نفسه، لا يبدو راسخا.
ويشك محللون اقتصاديون في أن يستمر النمو بذلك النسق العالي في 2010, وتدعم وجهة نظرهم تصريحات متعاقبة للرئيس باراك أوباما وكبار مساعديه بأن الاقتصاد الأميركي يواجه حقا تحديات كبيرة لعل من أخطرها البطالة التي ظلت مستقرة قرب 10% مطلع 2010 رغم النمو المرتفع للناتج المحلي الإجمالي في الربع الأخير من 2009.
وهناك أيضا العجز المتفاقم في الموازنة الاتحادية في ظل استمرار الإنفاق الحكومي المرتفع. وهو يهدد إلى جانب البطالة بمنع تعاف حقيقي للاقتصاد الأميركي.
وربما ينسحب هذا التوصيف على الاقتصاد العالمي برمته. فرغم أن صندوق النقد الدولي أصدر في فبراير/شباط الماضي تقديرات متفائلة جدا، إذ توقع نموا عالميا هذا العام بمعدل 3.9% و4.3% في 2011, فإن ذلك النمو العالي المتوقع شديد التفاوت إقليميا.
فمحركه الأساس انتعاش عدد من الاقتصادات الناشئة التي استلمت زمام قيادة الاقتصاد العالمي من القوى الغربية، كما يقول المحللون الاقتصاديون.
وعلى رأس تلك الاقتصادات الناشئة الصين التي تحدث مسؤولوها عن نمو متوقع لاقتصاد بلادهم لا يقل عن 10% في 2010 بعدما نما بنحو 9% في 2009.
ويُلاحظ في هذا الإطار أن مسؤولي صندوق النقد والبنك الدوليين يتعاملون أحيانا بحذر مع التقديرات المتعلقة بالنمو العالمي, ويشيرون إلى مخاطر تتهدده وتنذر بانتكاسة ومنها احتمال تفجر أزمة عامة بسبب انسحاب غير مدروس من سياسات التحفيز, وحدوث انفجارات مالية موازية هنا أو هناك.
ويبدو أن عدم التيقن من تعاف قريب وراسخ للاقتصاد العالمي في السنوات المقبلة هو الذي دفع المدير العام لصندوق النقد الدولي دومينيك ستراوس كان قبل أيام في محاضرة بجنوب أفريقيا إلى استنهاض همم حكومات العالم كي تتهيأ لأزمات أخرى على شاكلة الأزمة التي لا يزال العالم يعاني تبعاتها.
وربما تشكل الأزمة المالية في منطقة اليورو مثالا على حجم المخاطر التي تهدد الاقتصاد العالمي خلال السنوات القليلة القادمة.
ومع أن قادة ومسؤولين اقتصاديين أوروبيين يعتبرون أن بالإمكان تجاوزها من خلال التزام كل من الدول المأزومة مثل اليونان بالمعايير، إلا أن فشل الأوروبيين في إيجاد أداة جماعية لعلاج مشكلة الديون قد يعرض مستقبل المنطقة بأسرها للخطر.
وكان المستثمر الأميركي (من أصل يهودي) جورج سوروس قد أشار إلى ذلك الخطر في مقال له بصحيفة فايننشال تايمز مؤخرا.
ولعل الإحساس بخطورة المشكلة هو الذي دفع أوروبيين إلى اقتراح إنشاء صندوق نقد أوروبي يُعهد إليه إنقاذ دول متعثرة ماليا مثل اليونان، التي حذر رئيس وزرائها جورج باباندريو من أنها قد تنزلق إلى الإفلاس.
وقد حرص مسؤولون أوروبيون على التأكيد أن دور الصندوق المقترح -الذي قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إنه يمكن اللجوء إليه كملاذ أخير- لن يكون بديلا لدور صندوق النقد الدولي.
كما أن الإحساس بخطورة الثغرات في النظام المصرفي العالمي هو الذي يدفع قادة أميركا وبريطانيا وألمانيا وتكتلات مثل مجموعة العشرين ومؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، إلى التشديد على وجوب التوصل إلى قواعد عالمية منظمة ورقابة مشددة تمنع تكرار الممارسات المالية المتهورة التي تسببت في الأزمة الأخيرة.
وأميركا من بين القوى الاقتصادية الكبرى التي لا يزال نظامها المصرفي معرضا لهزات جديدة بينما تتواتر حالات إفلاس المصارف الأميركية إذ انهار ثلاثون مصرفا جديدا خلال الأسابيع العشرة الأولى من 2010.
وتوقعت المؤسسة الاتحادية للتأمين على الودائع مؤخرا أن يبلغ انهيار إفلاس المصارف ذروته هذا العام بعدما شهد 2009 إفلاس 140 مصرفا.
ويظل تفاقم العجز في الموازنة الأميركية -الذي رجح البيت الأبيض أن يقفز في السنوات العشر المقبلة إلى أكثر من تسعة تريليونات دولار بزيادة تريليونين عن تقديرات سابقة- تهديدا آخر لتعافي الاقتصاد الأميركي ومن ورائه اقتصادات الدول الصناعية والاقتصاد العالمي برمته.
ويكمن التهديد أيضا في هشاشة النمو في اليابان الذي سجل تراجعا في الربع الأخير من 2009 مع الارتفاع في قيمة العملة المحلية (الين), وتفجر أزمة شركة تويوتا لصناعة السيارت التي اضطرت في غضون أشهر قليلة إلى استرجاع أكثر من 8.5 ملايين سيارة معظمها من السوق الأميركية بسبب عيوب في التصنيع.
ويُخشى أن يكون لعمليات الاسترجاع, التي انتقلت عدواها إلى شركات يابانية أخرى, تأثير سلبي جدا على الصناعة اليابانية بأسرها.