قائمة الموقع

يخاف ذبح دجاجة وتصعب عليه الأضحية !

2014-04-03T12:36:06+03:00
الطبيب أثناء تشريحه لجثة
الرسالة نت- حاورته / أمل حبيب

ما بين طاولتَيْ التشريح الرمادية علقت رائحة الحياة في المكان من خلال حركات الأيدي وهدير ثلاجة الموتى وفلاش كاميرا "الرسالة نت" الذي ما فتئ يجدد بريقه في بقعة لا تعرف للحياة معنى !

أن تتقبل التعامل مع الجثث ذات الأطراف الباردة دون الشعور بالخوف منها في حين تخشى التعامل مع تلك الروح التي تسكن البدن قبل رحيلها فاعلم أنك أحببت أن تصبح طبيبًا شرعيًا كما الأخصائي شحدة عمران أحد الأربعة الذين ينفردون بحمل شهادة الطب الشرعي في القطاع !

ملامح وجهه التي لم تعرف للابتسامة طريقًا طيلة حوارنا معه كما مهنته بجديتها كان ما لفت انتباهنا وذاك الكشّاف الكبير فوق رأسه يكشف خبايا شخصيته تدريجيًا كما يفعل في لحظات النبش عن سبب الوفاة .

وكما نشوة الانتصار التي يشعر بها عمران حين يساعد في تحقيق العدالة من خلال مهنته فان "الرسالة" عاشت خمس وأربعون دقيقة داخل المشرحة بذات الشعور !

البداية

للبدايات طعم مختلف وحكاية لا يمكن للذاكرة أن تنساها أو أن يمل الحديث عنها, شغفنا لمعرفة تفاصيل اختياره للتخصص لم يدم طويلًا، حيث بيّن عمران أن دراسة الطب الشرعي كانت رغبة منه بعد أن لمس ندرة الدارسين للتخصص وقلة الكادر الطبي وقال عن البداية: "تولّدت لدي فكرة دراسة الطب الشرعي الجنائي في العام الخامس للطب العام بعد التحاقي بدورة ممتعة للطب الشرعي".

تلك المتعة التي عاشها عمران مع الأموات حصل على إثرها بشهادة ماجستير طب شرعي عام  2002, ورغم دراسته في روسيا الاتحادية وحمله للجنسية الا أنه كان يبحث عن التخصص الذي يحتاجه قطاع غزة , دون النظر لتلك العروض بالعمل في روسيا .

"

عمران : أخاف التعامل مع الأرواح وسعيد بعملي مع الجثث

"

"تجسيد العدالة الاجتماعية" كان دافعه الوحيد لارتداء القميص الأخضر طيلة عمره حتى الستين بحثًا عن سبب الوفاة, وقبل عام من مقابلتنا بالمختص عمران تمددت جثة متعفنة لشاب في العقد الثالث بعد أن وُجد متوفى داخل منزله بعد أربعة أيام من خروج الروح .

وأشارت التحقيقات إلى أنها وفاة طبيعية, وبعد عرضه على دائرة الطب الشرعي في مستشفى الشفاء وتشريح الجثة تبين بأنه قُتل بآلة حادة بإحدى عشرة طعنة وتم إبلاغ النيابة أنها حالة قتل جنائي بامتياز وليست وفاة طبيعية, وعلق عمران بلهجة اعتزاز بمهنته: "بفضل الله ودور الطب الشرعي لعُدّت هذه الحالة وفاة طبيعية وظل القاتل طليقًا" .

ملامح اليوم الأول للتشريح بحضور الجثة والمشرط كانت طبيعية -يقول عمران- ولم يتفاجأ، عازيًا ذلك إلى برامج التعليم المتطورة في الخارج.

كان العمل تدريجيا فبدأ زيارة للمشرحة مرة كل أسبوع ثم يومين, منوهًا إلى أنه لو شرّح الجثة منذ البداية لما استمر في نفس المجال!

استدرجناه للرجوع إلى بداية عام 2000 حيث أول يوم تدريب داخل المشرحة وتساءلنا: "هل لازلت تذكر رعشة يدك حينما أمسكت المشرط ورائحة الموت هناك؟ أجاب بسرعة وكأن تفاصيل اليوم لم تغب عن ذاكرته لحظة وقال: "أول حالة تشريح كان سببها إطلاق نار بالرأس والقدم بحضور أستاذ تشريح".

ولم ينكر شعوره بشيء من التردد في حضرة جثتان لأصحاب محطة بنزين في روسيا بعد حالة سطو ولابد من تشريحهما في بداية المشوار .

بكيت يومًا

اخترقنا فترة البداية كما تلك الرصاصة التي اخترقت رأس أصحاب محطة البنزين وسألناه بشكل مفاجئ "هل تستطيع ذبح دجاجة؟ فرد بثقة: " لا ", فعدنا بقولنا :"إذًا لربما كان خروفًا في يوم عيد؟ أجاب عمران وذات الثقة تراوح مكانها: "لا أذبح أضحيتي بيدي ويصعب علي مشاهدتها كما يصعب علي مشاهدة الانسان عندما تغادر الروح الجسد ولكن من السهل تشريح جثة بعد الوفاة".

خمس وأربعون دقيقة كان عنصر المفاجأة هو سيد الموقف بعد إجابات المشرّح الفريدة من نوعها فبعد لحظات انتظارنا لإجابته على سؤال: "متى شعرت بالخوف؟ تبين أنه لم يخف يومًا من الجثث أو غيرها حيث أكد وقد طبق شفتيه وهز برأسه نافيًا: "لم أشعر بالخوف ولكن غضبت وبكيت في بعض الحالات .

"

لم أشعر بالخوف يومًا ولكن بكيت في بعض الحالات واحتكاكي بالموتى اكتسبني شحنة سلبية

"

وهنا كان لابد من استحضار أصعب موقف بكى فيه طبيب التشريح أثناء عمله, فكانت دمعاته بسبب جثة طفل في ربيعه الرابع توفى نتيجة حادث سير, لم يكن مشهد الصغير بتشوه جمجمته ما أثار مشاعره لتخونه الدموع وإنما حضور والد الطفل مسرعًا من عمله الى المشرحة وتقبيله المستمر لقدم طفله وهو ينوح مرددًا "حبيبي يابا " كان السبب المباشر لأن يبكي عمران للمرة الأولى .

طرقات أبو سمير _ المراسل_ المتكررة لم تقطع انسجامنا مع الطبيب في حين لم يتوقف هو عن إكمال اجاباته, حيث أشار بيده الى طاولة التشريح على يميننا وقال :" هنا كان المشهد .. هنا بكيت ".

أطفالي والسفاح !

أب في منتصف العقد الرابع لستة أطفال فهل يراه أحدهم ذاك السفاح بقسوة قلبه وتشريحه للجثث ؟ نفى ذلك عمران بتكرار كلمة "لا" مرتين , وتابع: "أحاول إبعادهم عن الأمور السلبية التي من الممكن أن تؤثر عليهم وأنقلهم إلى الشق الايجابي من عملي وهو مساعدة أهل الضحية".

ومن الطبيعي أن ينعكس عمل الأب على عائلته إلا أن أخصائي التشريح  أكد بأنه استطاع الفصل التام بين عمله وعائلته, ووصل به الأمر أن يتجنب الحديث عن تفاصيل يومه في المشرحة لزوجته .

"في واحد مات بابا بدو يكشف عليه" هكذا بات محمد ابن التاسعة كما سنوات عمل والده في يستوعب طبيعة مهنة والده من خلال مكالمات الجوال التي تصل والده وتستدعيه النيابة للحضور للمستشفى للكشف عن سبب الوفاة .

"

الطبيب الشرعي مهمش وحقوقه ضائعة ولكني أشعر بنشوة الانتصار حينما يعاقب الجاني

"

لم ينعكس عمله سلبيًا على أطفاله بل كشف عمران النقاب بأن عمله بالمشرحة أفاده زاده حذرًا خاصة "كالبنانير" و"البلالين" والتي كانت سببًا في ازهاق أرواح عدد كبير من الأطفال التي كشف عليها .

حالة وفاة لطفل لا يتجاوز ثلاث سنوات من محافظة الوسطى استحضرها الطبيب لـ"الرسالة نت" وهو يصف خطورة انعكاس عمل الأب على صغاره حيث لجأ الصغير لاستخدام قفازات والده الطبية وقصها لينفخها ويبتهج قلبه الا أنه ابتلع اصبع الابهام وهو يحاول نفخه مما أدى الى انسداد مجرى التنفس ووفاته أمام والدته دون ادراكها ماذا حصل له .

وعلّقنا على الحادثة بسؤالٍ إجابته كانت متوقعة بالنفي, ألديك مشرط في البيت؟ رد عمران قائلًا: "لا يوجد عندي أي مشرط بالبيت أو أي أداة من عملي".

فصله التام بين بيته وعمله لم ينعكس سلبيًا على صغاره ولكن مشاهد الجثث في بعض الحالات ما فتئت تلاحقه في منامه كما أكد عمران, ولم يخفِ أنه اكتسب شحنة سلبية من طبيعة عمله أدت الى العصبية وشعوره بالأرق في بعض الحالات .

طبيب مهمش!

لون الكفن وقميص التشريح الأخضر دفعنا لسؤاله: "هل كرهت الأبيض والأخضر؟ رفع حاجبيه استغرابًا ثم أجاب باختصار: "أحب جميع الألوان ولم يكرهني عملي بهما ".

صوت ثلاجة الموتى لم يكن بعيدًا عنا حيث يرقد الراحلون بسلام ولا يفصلنا عنهم سوى جدار واحد, هديرها كان بمثابة سمفونية الحياة خلال لحظة صمت بعد سؤال وجب فيه استحضار الطبيب لبعض المشاهد, خاصة تلك المتعلقة بالتعامل مع الأحياء والتي اعتبرها عمران محدودة.

"

تجسيد العدالة الاجتماعية هو الدافع الأساسي لدراستي ولا أحلم بأن يصبح ابني طبيبًا شرعيًا

"

ويشمل عمل دائرة الطب الشرعي الكشف على بعض الأحياء كالذين يتعرضون لحالات الاغتصاب وحالات الاعتداء داخل السجون, وقال في السياق: "بالنسبة للإناث كُوّنت لجنة من طبيبات النساء والولادة للكشف عليهن", وتابع متأسفًا: "يُعرض علينا لا بأس به من حالات اللواط ونسبة كبيرة منهم أطفال".

تعامله مع الأحياء يختلف, فبعيدًا عن جديته في العمل مع الجثث الهامدة يحاول عمران التخفيف عن الأطفال حيث يسعى إلى إدخال الابتسامة عليهم قبل الكشف .

وفيما يخص الطاقم داخل المشرحة بين بأنه يتكون من طبيب شرعي وفني تشريح والمراسل لتحضير الكفن, ولحديثنا عن الوقت التي تستغرقه حالة تشريح الجثة لفت إلى أن ذلك يعتمد على الحالة وعدد الإصابات فيها, فإذا كانت سمينة تأخذ وقت أكبر, وإذا كانت عدد الإصابات متعددة فلابد من تشريح كل الجسد .

وفي حضرة طبيب التشريح استحضرنا صور أهالي الضحايا والمجني عليهم وتقبلهم لفكرة تشريح الجسد, وقال عمران: "نقوم بالتشريح الكامل إلا أن عددًا من الأهل يرفضون التشريح وفي تلك الحالة نقوم بإقناعهم بأننا سنشرّح المنطقة المصابة لأنه مفيد لسير العملية القضائية.

وأضاف: "في بعض حالات رفض الأهل تتدخل النيابة وتفرض تشريح الجثة".

عمران لم يعتبر رفض الأهل تشريح الجثة مشكلة، لكن غياب المعمل الجنائي لدائرة الطب الشرعي كان أبرز معيقات عمله, وكذلك محدودية الكادر الطبي حيث يقوم بتغطية القطاع أربعة أطباء شرعيين وثلاثة فنيين فقط!

بطبيعة الحال لم يتمنَّ عمران لابنه محمد أن يصبح طبيبًا شرعيًا وعزى ذلك بنبرة استياء: "للأسف الطبيب الشرعي مهمّش ويفتقد حقوقه المادية والمعنوية", وبعد تنهيدة قطعها سؤالنا كيف؟ قال: "من حقه أن يسافر في السنة مرة واحدة على حساب الدولة كنوع من الترفيه (...) طالبنا جميع المسؤولين ولكن وللأسف عندما وُضع دستور وقوانين السلطة لم يضعوا قانون الطب الشرعي مما أوجد خللًا عند المطالبة بالحقوق".

واعتبر عمران أصعب ما واجهه كطبيب في دائرة الطب الشرعي هو غياب التوافق بين الكادر الطبي والادارة .

كرامات الشهيد !

"لهم رائحة مميزة تجذبك نحوهم .. شهداء كثر كشفت عليهم وهم يرفعون أصبع السبابة .. شهداء كُثُر ابتسامتهم عالقة بذهني "بهذه الكلمات ذات العبق الخاص كان حديثه عن جثامين الشهداء التي تعامل معها طيلة عمله, وكان أكثر من تأثر بهم من الشهداء هم أطفال حرب الأيام الثمانية وتلك الابتسامة البريئة على محياهم رغم الشظايا التي اخترقت أجسادهم .

"

لست سفًاحًا في نظر صغاري ولا مشرط في بيتي  والدم له رائحة مميزة وحاسة الشم جوهر عملنا

"

مكانة العاطفة بالنسبة لطبيب التشريح لم تكن كما تصورنا بأنه لابد من تركها بين أنفاس صغاره حيث أكد عمران على أنه كتلة من العواطف, وأن طبيعة عمله تكسبه اياها.

تلك العاطفة تجلّت قبل شهر ونصف حين قتلت فتاة على خلفية شرف وذبحت ذبحًا وكشف عليها على طاولة التشريح اليسرى لمقعد "الرسالة نت" بحضور رئيس النيابة, وقال معترفًا: "تأثرت بطريقة القتل وتعاطفت مع الحالة وبدأت بالاستفسار لماذا هذه الوحشية في القتل !

بدورنا سألناه: "هل عادة ما تستفسر عن تفاصيل الحادثة؟, أجاب: "من خلال عملنا نجمع البيانات والظروف الواقعة فإن بعض الحالات تجذبك للتطرق لأمور أخرى .

وبعيدًا عن العنف والقسوة التي تجلّت في عدد من الحالات التي تعامل معها أردنا الحديث مع الطبيب عمران عن موقف طريف حصل معه خلال عمله إلا أنه لم يسترجع أي موقف طريف لأن عمله يتسم بالجدية, مبينًا أنه وإن حدث فلن يشعر به خلال انشغاله وحالة الصدمة لذوي المتوفي وانتظار النيابة للنتيجة .

حفظ السر نسبتها وضرورتها في حياة الطبيب الشرعي لخصها عمران بالقول: "خلال الأسبوع الحالي كشفت على ست حالات لا أعرف أسماءها ولا أخزنها بعقلي وإنما أوظفه في التقرير (...) سرنا نقدمه للنيابة ونشهد به أمام القضاء" .

رائحة الشواء!

لا لون للحياة هنا فأرواحهم غادرت, وبقيت أنفاسه وحيدة وأطراف الجسد الباردة, لم يغب عن بالنا الحديث عن ملذات الطعام في حضرة الموت !

وعلى ما يبدو فإنها مرة واحدة التي حفرت بذاكرته للمفارقة التي حصلت بعد وصول ثلاثة جثث متفحمة لشهداء بعد قصفهم بصاروخ, وبعد عودته إلى المنزل قدمت له أم محمد وجبة العشاء المكونة من أجنحة دجاج مشوية, استحضر المشهدين وذات الرائحة وقال: "لم أفرق بين رائحة شواء البشر أو الدجاج, فكرت للحظات وكدت أفقد رغبتي في تناول العشاء إلا أنني قلت لا مجال للعاطفة, فهذا طعام يؤكل وهذا عمل يجب تنفيذه ".

وخلال حوارنا مع الطبيب عمران تبين لنا بأن حاسة الشم هي جوهر عمل طبيب التشريح, منبهًا الى أن للدم رائحة مميزة.

وما يشبه ابتسامة حاولت عضلات وجهه أن ترسمها بعد استفسارنا عن مدة انتمائه وحبه لمهنته

أجاب: "سعيد جدًا بعملي لأنه يساعد العدالة ويعاقب الجاني وأستمر حتى التقاعد".

ومع اقتراب انتهاء مدة إقامتنا الطوعية في المشرحة كانت الطرقات الأخيرة على الباب فظنناها فنجان قهوة سنجازف باحتسائه في غرفة التشريح, الا أن همة أبو سمير كانت سرقت أحلامنا, بقوله: "وصلت حالتين من رفح" , فبادله الطبيب عمران بالرد باتزان: "دخلوهم دخلوهم" .

مرحلة جمع عمران للبيانات حول الجثتين لعبنا دورها بعد أن سردنا عليه تفاصيل حادثة حرق منزل لعائلة شيخ العيد في مدينة رفح بسبب شمعة .

لم تشرح جثة الطفلتين غنى وملك لأن سبب وفاتها كان حرقًا, الا أننا استطعنا تشريح شخصية الطبيب الشرعي شحدة عمران في عقر داره وغادرنا بسلام من بقعة الموت !.

(عدسة: محمود أبو حصيرة)

اخبار ذات صلة