قائمة الموقع

مقال: جولات في الفكر الإسلامي

2009-09-01T05:58:00+03:00

[11]  الصيام تربية لروح الإرادة والمقاومة في الأمة

بقلم : أ. يوسف علي فرحات    

إن شهر رمضان مدرسة لهذه الأمة يحمل معه كثيراً من الدروس تنفع الأمة في دنياها وآخرتها ، ولعل من أهم الدروس التي يحملها رمضان أنه يربي روح المقاومة والصلابة في الأمة ، والأمة اليوم في أمس الحاجة أن تتعلم هذا الدرس وتعيه جيداً في زمن تكالبت فيه الأمم على أمة الإسلام فأصبحت الأمة الإسلامية أمة ضعيفة ممزقة لا تملك إرادة ولا قرار .

إن قوة الأفراد والأمم لا تقاس بمقدار ما عندها من العلم أو بسطة السلطان أو وفرة المال ، ولكن تُقاس بقوة الصلابة والإرادة  وروح المقاومة في النفس تُثبتها عند المحنة والفتنة ، وقديماً عرضت الفتنة على يوسف الصديق عليه السلام إغراءها السافر وإرهابها الظالم ، وقالت امرأة العزيز : ?وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ?  ، فكان جوابه : ? قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ?

إن هذه الصلابة في مراغمة الباطل ومقاومة الظلم والمناعة ضد الشهوات وصنوف المغريات ، هي أهم وأعظم ما نحتاج إليه اليوم في مواجهة أنواع التحديات التي تتعرض لها الأمة الإسلامية .. إنه لا ينقصنا المال فنحن أغنى أهل الأرض ، ولا ينقصنا العلم فلدينا في العالم العربي مئات الجامعات ، ولا ينقصنا العدد فالمسلمون اليوم يصل عددهم إلى مليار وربع المليار  ، ولا ينقصنا بسط السلطان وسعة الأوطان فالمسلمون لا تغيب الشمس عن أوطانهم ، إنما ينقصنا شيء واحد هو هذا الضمير المسلم المستعصم وهذه القدرة على مقاومة الإغراءات والتي ترجع في جملتها إلى شهوات البطن والفرج وحظوظ النفس والتعلق بمتع الحياة الدنيا .

ولا سبيل إلى ذلك كله إلا بتربية روح المقاومة في داخل الفرد والأمة حتى تتخلص من سلطان البطن وأسر الشهوات والغرائز ، ومن أجل ذلك شرع الله سبحانه وتعالى الصوم ليكون رياضة عملية يحدث فيها انقلاباً في مألوف عاداته ونظام حياته ، فيصبح هواه تبعاً لأمر الله سبحانه وتعالى ، وإرادته تبعاً لإرادة الله ، وتصرفاته تبعاً لما يحبه ويرضاه .

وحري بمن ترك شهواته وغرائزه لله أن يكون قوياً حراً وعندئذ لا يبالي أن يقول ( لا ) إذا وجبت و( نعم ) إذا وجبت ولو كلفه ذلك ضيق العيش وجهد الحرمان وقلق الحياة فقد تدرب في الصوم على مثل هذا ،وبذلك يكتسب المسلم مناعة ضد استرخاء العزم واستبداد الوهم ويستطيع أن يتخلص من عادات مبددة لأموال الأمة وصحتها كالتدخين والأفيون والمخدرات .

هذه هي الغاية من الصوم : اكتساب هذه المناعة والصلابة وقوة المقاومة لنوازع النفس أو نزغات الشياطين وذلك مما سماه سبحانه وتعالى ( التقوى ) وجعل الغاية المرجوة من الصوم في قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ?  أي تتقون الوقوع في المعاصي والضعف في مواجهة الإغراء وسهام الشيطان .

إن الإسلام فعل أوترك ، والترك أصعب ، إن تكاليف الدين تدور بين أمرين  افعل الخير واترك الشر ، وفعل الخير أهون من ترك الشر ، فإن الصلاة والصدقة والذكر وتلاوة القرآن لا تحتاج إلى معاناة شديدة وكلفة وربما كانت شهية محببة إلى النفس . أما غض البصر وكف الأذى وإمساك اللسان وحفظ الفرج وكظم الغيظ فكلها خصال تحتاج إلى معاناة وصبر ومقاومة ومراغمة للنفس ولذلك كانت أعظم عند الله أجراً ، ولذلك قال تعالىِ : ? إن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً ?

إن أول أسباب النصر عند الله وفي الإسلام أن ينتصر المرء على نفسه وأن يُسلم لله وجهه وقلبه وحياته ومماته ، وأن لا يكون عبداً إلا لله لا لبطنه ولا لهواه ، وآية ذلك الصبر عما يحب والصبر على ما يكره ، وقديماً ?لما فصل طالوت بالجنود قال فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ...?

إن النهر لا ينفد ولو عب منه الجنود وكرعوا ولكن النصر لا يتنزل إلا إذا أطاع الجنود وصبروا ، والجندي الذي يستعبده بطنه لا ينصره ربه ، ولذلك امتحنهم طالوت هذا الامتحان العجيب فسقط جنوده

( بنو إسرائيل )  ?فشربوا منه إلا قليلاً منهم ? ولكن هذه القلة هي التي ثبتت تنزل عليها النصر ، أما عباد البطون فقالوا . ?لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده .? ، أما الذين أطاعوا واقتحموا وقالوا  ? كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين  ?  ?  فهزموهم بإذن الله ?

لذلك لم يكن صدفة أن يُشرع صوم رمضان في السنة الثانية للهجرة التي أذن الله فيها للمسلمين بالقتال وأن يخوض المسلمون أول معركة فرق الله فيها بين الحق والباطل ? يَومَ الفُرقانِ يَومَ التقى الجمعان ?

إن شعبنا وهو يعيش اليوم  واقع الحصار والاحتلال المؤلم لهو في حاجة إلى أن يصبر صبر الحر ويتجلد تجلد الكريم ، أن يصبر على مقاومة عدوه ، ولن يقدر على ذلك إلا إذا تحرر من سلطان البطن وعبادة الشهوات ، وقديماً قال سفيان الثوري رضي الله عنه : (من يصبر على الخبز والملح فلن يستعبده الناس )

و في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه كان يصبح فلا يجد في بيته ما يطعمه فيقول ( إذن فإني صائم ) ، وروى المحدثون أن معاوية رضي الله عنه أرسل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ألف درهم ، قالوا فوزعتها ليومها وأمست وما عندها من ذلك درهم ، فقالت لها خادمتها : يا أم المؤمنين ما استطعت فيما فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه فقالت لها : يا بنية لو ذكرتني لفعلت "

ألا رحم الله أمة أفلتت من جاذبية الأرض وأسر البطن واستعلت وصامت فجعلهم الله أئمة وجعلهم الوارثين ومكن لهم في الأرض .

 

اخبار ذات صلة