كان قرص الشمس ينحدر نحو المغيب حين حملت الأم سعدية طفلتها ذات الستة أعوام، وهرعت بها نحو مستشفى الشفاء في مدينة غزة، لأجل تقديمها لعملية فحص بهدف التأكد من سلامة عذريتها.
بدت علامات الألم على ملامح الصغيرة التي كان قد خلا بها مراهق من جيرانها على سطح منزله، لكن قدّر لها النجاة من بين يديه بعد تدخل ذويه مع ترك آثار خدوش على جسدها النحيف.
عندما طمأن الطب الشرعي والدة الفتاة على سلامتها، عادت بها الى البيت وقد فرضت تكتما شديدا حول القصة خشية «الفضيحة»، غير أنها اكتفت بتوبيخ والدة المتحرش وتوعدتها بالتشهير ما لم تلجم ابنها عن سلوكه الشاذ، حسبما قالت.
ظنت الأم أن القصة انتهت عند هذا الحد، لكنها فوجئت بعد ايام بملازمة التبول اللاإرادي لطفلتها والاضطراب والفزع الليلي على أثر كوابيس تجهل الصغيرة فك طلاسمها، ليتكشف لها لاحقا بعد عرضها على طبيب نفسي أن تلك الأعراض أسبابها حادثة التحرش التي وقعت الطفلة ضحيتها.
وتفرض قضية التحرش بالأطفال رغم ثقل وقعها على آذان المجتمع الفلسطيني، نفسها على واقعنا، خصوصا أن ضحاياها -الذين تخطوا حاجز الـ300 ضحية في قطاع غزة خلال عامين ، وفق إحصاءات مشروع حماية الاطفال من الاستغلال الجنسي- يتألمون بصمت تحت وشاح الستر الأسري، فيما ان هناك عشرات القضايا التي طوقها رجال العشائر بعيدا عن بوابة السجن ومطرقة القضاء، الأمر الذي استلزم مناقشة القضية في سياق هذا التحقيق، للوقوف على حجم المأساة ومعالجتها قدر ما امكن.
"توثيق 317 حالة خلال عامين
"
ويتضمن التحرش الجنسي بالطفل ملامسته أو حمله على ملامسة المتحرش، فضلا عن الاعتداء الجنسي المباشر في صوره الشاذة، الأمر الذي يترك آثارا عاطفية مدمّرة على الضحية، وفق تعريف المختصين النفسيين.
الحادثة الآنفة الذكر التي تعرضت لها الطفلة ودفعت ثمنها باهظاً على إثر الأذى النفسي الواقع عليها في الوقت الذي لم يتلق فيه الفاعل أي عقوبة رادعة، كانت كفيلة بأن تعيدنا للتفتيش في القانون على المواد التي تضمن حق حماية الأطفال، على ضوء تفاقم اعداد ضحايا التحرش بشكل يخالف توقعات شرائح واسعة من المجتمع، خاصة أننا اكتشفنا ارتفاع عدد الأطفال الاحداث الموقوفين على خلفية الجريمة الأخلاقية اجمالا خلال العامين الأخيرين بشكل ملحوظ.
غير أن المشكلة بدت متعلقة بالثقافة المجتمعية اكثر منه خللا في صياغة النصوص القانونية التي تضمن بيئة آمنة للأطفال، رغم مآخذ المحامين عليها.
وينص الفصل الثامن من قانون الطفل الفلسطيني في مادته (42) على أن للطفل الحق في الحماية من أشكال العنف أو الإساءة البدنية أو المعنوية أو الجنسية وتتخذ الدولة التدابير اللازمة كافة لتأمين الحق المذكور.
ولكن عندما عدنا الى قانون العقوبات الفلسطيني وتحديدا للمواد المتعلقة بالجرائم الجنسية، تبين أنها كانت متباينة، حيث أن اقلها ما ورد في المادة (160) الخاصة بالأفعال المنافية للحياء مع الأولاد التي نصت على العقاب بالحبس ثلاث سنوات للفاعل على اعتبار انها جنحة، فيما نصت المادة (152) على أن كل من واقع ولداً دون سن الستة عشر عاما او لاط به، يعتبر ارتكب جناية ويعاقب بالحبس 14 عاما.
الملاحظ في سياق هذا التحقيق أن تلك النصوص القانونية ظلت حبراً على ورق وفقدت قيمتها في المجتمع الغزي إزاء تفضيل ذوي الضحايا التستر على أبنائهم خشية مما يعرف بـ»الفضيحة» ووصمة العار المجتمعية، والقبول بالصلح العشائري.
"التحرش بالأطفال يتفاقم على وقع الخوف من الفضيحة
"
ويعتقد المحامي أحمد المصري المختص بالمرافعة عن الأطفال ضحايا التحرش، أن العقبة الأولى التي تقف في طريقهم هي تدخل رجال العشائر في بعض القضايا من هذا النوع، والذين يمنحون وفق وصفه «صكوك غفران» للجاني، وبالتالي لا يكون أمام القضاء الى اخلاء سبيله تطبيقا لمبدأ العدالة التصالحية.
وعلى الرغم من تسجيل المحامي المصري مأخذا على بعض مواد قانوني الطفل والعقوبات، ووصفهما بأنهما حملا طابعا قيميا وافتقادهما للإلزام، إلا أنه أخبر عن أن العقبة الثانية التي تعترضهم كحقوقيين هي رفض الأهالي الابلاغ عن حوادث التحرش التي تعرض لها اطفالهم، واعتبارها «سرا» لا يجب أن يباح به خارج عتبات المنزل، حفاظا على الأسرة.
ولا يقبل قطاع غزة المعروف بمغالاته في العادات والتقاليد التحدث عن المشكلات الجنسية الموجودة في المجتمع تحت أي ظرف، ولهذا يقبل أهالي الضحايا التعاطي مع الوجهاء ورجال العشائر إذا ما نشب شجار عائلي مع ذوي الجاني، على الذهاب الى مخافر الشرطة وأروقة القضاء خشية من اتساع دائرة «تشويه السمعة».
لكن الحاج أبو ناصر الكجك مسؤول ملف العشائر في وزارة الداخلية بغزة، رفض التقليل من أهمية التدخل العشائري في القضايا الاخلاقية، مشيرا إلى أن رجال الإصلاح يراعون في احكامهم العرفية ظروف المجتمع وكل قضية على مختلف حيثياتها واطرافها.
وشدد الكجك على عدم توانيهم مع اصحاب السوابق من الجناة، فيما أكد تقديمه مخاطبات شفهية الى النائب العام والقضاء لإنزال اقسى العقوبة بالمتورط المتمرس في التحرش بالأطفال.
تجنب تلويث السمعة
ويبرر جهاز الشرطة افتقاده للإحصاءات المتعلقة بحالات التحرش بالأطفال، بمحاولة رجال العشائر ايجاد حلول للمشكلة من خلال العّرف العشائري حفاظا على عدم تلويث سمعة العائلتين، وتجنبا لتشويه مستقبل الضحايا.
ونفى المتحدث باسم جهاز الشرطة المقدم أيوب أبو شعر، وصول شكاوى بهذا الخصوص إلى مخافر الشرطة في قطاع غزة، مؤكدا أن حالات التحرش بالأطفال «إن وجدت تجري معالجتها عن طريق العرف العشائري.
"ضحايا يتألمون بصمت وجناة يعضون أصابع الندم
"
أوعز أبو شعر الى جهاز المباحث العامة لأجل اطلاعنا عما اذا كانوا قد بحثوا في ملفات حساسة من هذا النوع لكن الإجابة كانت بالنفي القطعي ايضا.
غادرنا المقر الرئيس لجهاز الشرطة، واتجهنا محملين بموافقة خطية من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية نحو مؤسسة الربيع لرعاية الأطفال الاحداث او ما يصطلح عليها بـ»الاصلاحية»، لأجل البحث في الدوافع التي زجت بالأطفال القاصرين دون سن الثمانية عشر عاما في مستنقع التحرش مع من هم اصغر منهم سناً.
هناك داخل المؤسسة التي اشترطت ادارتها عدم التقاط الصور للأطفال الأحداث، أوقف -منذ مطلع العام الحالي 2014 حتى نشر هذا التحقيق- (11) حدثا على خلفية التحرش.
في غرفة خاصة داخل «الاصلاحية» التقينا أربعة من الأحداث، ثلاثة منهم أقروا بارتكاب الجرم، فيما نفى الرابع وهو طالب مهني يقطن شمال القطاع، الجريمة عن نفسه، قائلا «انه ضحية خلاف عائلي قائم بين والده وابناء عمومته الذين اتهموه بالتحرش بطفلتهم ذات الثلاثة اعوام وتجريدها من ملابسها في ارض زراعية تعود ملكيتها لوالده.
"مختصة: أهالي يجهلون خطورته رفضوا التعاطي معنا
"
بعيدا عن حيثيات الجريمة التي اقترفها الاحداث، لكن ظروفهم الحياتية تشابهت بشكل كبير، حيث أنهم قد غادروا مقاعد الدراسة مبكرا، وأولياء أمورهم عاطلون عن العمل ويعانون ظروفا معيشية صعبة ويشاركون في توفير جزء بسيط من النفقات، وفق افادتهم.
الحدث احمد (اسم مستعار) في الخامسة عشرة من عمره، قال إن الدافع الأبرز الذي أدى به للإقدام على التحرش بخمسة أطفال في محيط سكنه تتراوح اعمارهم بين (2-10) أعوام، هو مشاهدته لوالده وهو يعاشر زوجته الثانية»، لافتا إلى أنه كان قد تعرض لتوبيخ وتعنيف شديدين على خلفية اقتحامه غرفة النوم الخاصة بوالده «دون قصد».
يشير الحدث احمد الذي تبدو علامات البلوغ واضحة عليه، إلى أن والده لم يكن يرعاه هو واخوانه ووالدته، وكان يجبره على العمل لأجل الانفاق على الأسرة، «وقد وعدني أبي بالزواج ولم يوف بوعده» والكلام للحدث.
الحدث القاطن في المحافظة الجنوبية من قطاع غزة، ويعمل في ورش البناء، حكم عليه قبل أيام بالسجن ثلاث سنوات. عندما سألناه عن وقع السجن على نفسه عضّ على شفتيه وقال متجهما «مصيبة وقعت على راسي» في اشارة الى حجم ندمه.
"طبيب نفسي: من تأثيراتها تحويل الضحية إلى متحرش
"
خيار العودة إلى ممارسة الافعال المخلة بالآداب بعد قضاء فترة الحكم القضائي بالنسبة لأحمد، هو أمر يستوجب الانتحار، لأن العقوبة كما يقول كفيلة ورادعة للعدول عن سلوكه المنبوذ.
لكن ماذا عن الحلول الودية للقضية بين ذوي الضحايا والجناة عن طريق الوسطاء والوجهاء، هل هو قادر على وضع حد لظاهرة التحرش بالأطفال؟ بالتأكيد لا؛ لأن النسب والأرقام تتحدث عن واقع مزر على مستوى الأطفال الاحداث الذين اوقفوا على خلفية القضايا الأخلاقية خلال العامين الاخيرين.
وتبين لنا أن الأطفال القاصرين الذين أوقفوا خلال العام 2012 على الخلفية الأخلاقية في مؤسسة «الربيع» بلغ عددهم 63 حدثاً، بينما كانت حصيلة العام 2013 نحو 107 أحداث، وفق احصاءات رسمية لدينا نسخ عنها، وهذا يعطي دلالة على أن العدد آخذ في الازدياد.
غرامة الإبعاد
من الأهمية بمكان التذكير بأن أكثر عقوبة من الممكن أن يصل اليها العرف العشائري، هي مطالبة ذوي الجاني بالرحيل عن الحي الذي يقيم فيه سيما اذا ما كان جاراً للضحية، أو تغريمه بالمال. وقد وقعت هذه الحادثة غرب مدينة غزة حينما تقرر ابعاد الفتى سامي (اسم مستعار) عن حيه بعد أن افترس طفلة في العام الثالث من عمرها ، وقام بتجريدها من ملابسها في الأزقة وممارسة افعال شاذة، قبل نحو عام.
تعاطفا مع عائلة الضحية التي نتحفظ على ذكر اسمها، طالب أهالي الحي آنذاك لجان الإصلاح بضرورة اجبار ذوي الجاني على النزوح عن مسكنهم كعقوبة للجرم المقترف بحق الصغيرة، فيما لم تأخذ الأمور منحى قانونيا يجرم الفاعل ويكبح جماح شذوذه.
"الشرطة: لم تصلنا شكاوى وإن وجدت تعالج عبر العرف العشائري شؤون
"
غير أن الكجك اعترض على هذه العقوبة العشائرية، قائلا «أنا ضد الترحيل لأن فيه ايذاء للأبرياء، فما ذنب أسرة الجاني وأشقائه بأن يدفعوا ثمنا باهظا كهذا؟، الأصل أن يعاقب الجاني وحده».
وشدد مسؤول ملف العشائر في وزارة الداخلية في غزة على وجوب مراعاة رجال العشائر التفاوت في مستويات القضايا من هذا النوع، بين من هو مراهق أو متمرس في ارتكاب الفاحشة وبين من هو مريض نفسي أو انسان غير سوي»، لكنه عاد وشدد في توصياته بضرورة تضييق الخناق قدر ما امكن في هذه الأمور الحساسة تجنبا للتأثير على سمعة العائلات وحفاظا على ترابط المجتمع.
بينما قال المحامي المصري، «إن تطبيق قانون العقوبات رغم المآخذ عليه أفضل حالا من تدخل رجال العشائر الذين يبررون تدخلهم في قضايا التحرش بالأطفال بوقف انزلاق المشاكل بين عائلات الضحايا والجناة نحو الانفلات الأمني».
«الرسالة» خلال زياراتها الميدانية حصلت على نسخة من عريضة وقع عليها نحو 250 ألف شخص في قطاع غزة، ضمن حملة الربع مليون لمناهضة الاستغلال الجنسي ضد الأطفال، ابان تنفيذ مشروع حماية الأطفال من الاستغلال الجنسي قبل عامين بمشاركة 25 مؤسسة أهلية.
"العشائر: نراعي في أحكامنا العرفية ظروف المجتمع
"
وبحسب الأرقام التي خلص اليها المشروع وحصلنا على نسخ منها، فإن الأطفال ضحايا التحرش الذين قدم لهم الدعم النفسي عددهم (317) ضحية، وتوزعوا على المحافظات الخمس لقطاع غزة حسب التسلسل التالي: أولاً محافظة خانيونس، تليها محافظة رفح، فيما جاءت محافظة غزة في المركز الثالث، في حين احتلت محافظة الشمال المركز الرابع، وأخير المحافظة الوسطى.
وقد بدا أن أكثر المشاكل الجنسية التي يتعرض لها الأطفال وفقا للمختصين الذين التقيناهم في سياق الجولات الميدانية، هي مشكلة التحرش، يليها الاعتداء الجنسي، ثم الشذوذ والاغتصاب، وأخيرا المثلية.
ذكور ضعف الإناث
وبناء على معلومات موثقة من المركز الفلسطيني للديمقراطية وحل النزاعات كجهة تنفيذ للمشروع الذي يستكمل هذه الايام مرحلته الثانية على مستوى الأراضي الفلسطينية، فإن نسبة الضحايا من الأطفال الذكور تمثل قرابة الضعف بالنسبة للإناث، حيث بلغت نسبة الذكور 65%، بينما الإناث 35%، فيما كانت الفئة العمرية الواقعة بين (7-12) عاما الأكثر عرضة لجريمة التحرش.
وتفسر نجاة الجبيري المشرفة على مشروع حماية الأطفال من الاستغلال الجنسي، الاعتداء على الأطفال الذكور بشكل أكبر من الاناث في المجتمع الغزي، بأنه عائد لدرجة اهتمام الأسر بالمحافظة على الفتيات بشكل أكبر من الذكور الذين يحظون بفرصة اللهو والنزول الى الشارع وقضاء اوقات اطول خارج المنزل.
"محامي: تطبيق قانون العقوبات بعلته أفضل من تدخل رجال العشائر
"
الجبيري التي امتنعت عن تقديم أي من ملفات الأطفال الضحايا المتوفرة لديهم والتي تفوق العشرات لدواعي السرية والكتمان، والتي ابتغينا مطالعتها لدراسة بيئاتهم المعيشية، أكدت أن المجتمع بحاجة الى توعية وتثقيف بخطورة جريمة التحرش «لأن معظم أهالي الأطفال الضحايا رفضوا التعاطي معنا، وهم يجهلون الأمور القانونية» كما قالت.
ولولا أهمية قضية التحرش بالأطفال في المجتمع لما تعرضنا إلى هذا الكم من الأرقام التي تعكس دقة الدراسة التي اجريت عليهم، والتي أظهرت أن الأطفال المتعرضين للتحرش على يد أشخاص معروفين لديهم تمثل 80%، مقارنة بالأشخاص المجهولين البالغة نسبتهم 19%، وأن أكثر الأقارب المنتهكين لحرمات الأطفال هم من أبناء العم ونسبتهم 70%، يليهم الإخوة ثم الأعمام.
ويرجع الطبيب النفسي عمر البحيصي، تعرض الأطفال للتحرش من أشخاص معروفين لديهم، إلى نمط الحياة في المجتمع الفلسطيني المتعلق بالعائلة الممتدة التي يتكاثر فيها الأبناء وازواجهم مع وجود ابناء العم والأقارب من الدرجة الأولى مما يؤدي الى افتقاد الخصوصية والتداخل فيما بينها.
فضلا عن ذلك، يلمح البحيصي الى أن النشأة الاجتماعية الخاطئة التي تدفع الأسر للتكتم حول الحوادث الاخلاقية التي يتعرض لها صغارهم، تخلق تأثيرات نفسية كبيرة بالنسبة للأطفال الضحايا، وقد تدفع بعضهم مستقبلا لأن يصبحوا متحرشين، كما يقول.
عقدة
أما عن عقدة الاشخاص غير المعروفين بالنسبة للضحية، فإن هذه تعتبر حائط صد يصطدم به المختصون النفسيون والقانونيون العاملون في مجال توعية الأهالي بخطر التحرش على أبنائهم.
ويتقاطع قول المختصة الجبيري مع المحامي المصري، حول أن الطفل في بعض الاحيان لا يستطيع ان يعبر عما مر به من أحداث خاصة اذا كان في السنين الأولى، وفي احيان اخرى يصعب اثبات الجريمة بسبب استحالة وجود شهود في معظم جرائم التحرش بالطفل.
المشكلة الأعقد والأهم، هي أن بعض الأسر تحمل الفتيات القاصرات مسؤولية ما تعرضن له من حوادث تحرش، الأمر الذي حصل فعلا مع الطفلة سهى (14 ربيعا)، والتي كانت قد وقعت ضحية لحوادث تحرش متكررة تحت سيف ابتزاز أحد اصهارهم، الذي كان يستغل زيارتها الى بيت شقيقتها ليقوم بالتحرش بها داخل المطبخ وأسفل الأدراج.
ولولا حنكة الطبيب النفسي، لكانت سهى (اسم مستعار) القاطنة في مخيم البريج وسط قطاع غزة، في عداد الموتى بذريعة (غسل العار)، حيث استطاع اقناع ذويها بحقيقة الأمر الذي كان خارجا عن ارادتها، لاسيما أن الجاني قام باستغلالها مرارا وواعدها مهددا بفضح امرها ما لم تحضر لمقابلته.
"نتائج دراسة: ضحاياها الذكور أعلى نسبة من الإناث وتكثر في الفئة العمرية (7-12) عاما
"
يقول الطبيب الذي فضل عم الكشف عن اسمه، مكتفيا بعرض ملف الطفلة علينا، لقد جاء الأهل بطفلتهم وهم يجهلون ما وقع عليها من اعتداء جنسي، وقدموها للعلاج من الاضطراب الذهاني والتوتر الزائد والكوابيس الليلية والتبول اللاإرادي الذي طرأ على حالتها.
عندما أخضع الطبيب الطفلة المريضة للعلاج تبين أن معاناتها ناجمة عن التعرض للتحرش وقد ابلغ الأهل بذلك الذين بدورهم أخضعوها لعملية فحص للتأكد من سلامة عذرية الصغيرة، لكن المصاب الجلل تمثل في اكتشاف وطآن الفتاة من الدبر.
يشير الطبيب إلى أن ذوي الفتاة بدأوا يتغامزون ملوحين بقتلها لولا أنه تدخل وتمكن من اقناعهم بأن الأمر خارج عن ارادتها وهي لم تزل بكرا، في الوقت الذي قال إنهم تجنبوا معاقبة الجاني خشية «الفضيحة».
وحفاظا على براءتهم لم تتطرق «الرسالة» للحديث مع الأطفال الضحايا، تجنبا لإعادة نكئ الجراح واستحضار التجارب السابقة، خصوصا أولئك الذين خضعوا أو ما زالوا يخضعون لجلسات علاج نفسي، بشقيه (الدوائي والسلوكي).
غير أن الحديث مع ذويهم يعكس واقعا غاية في السوء، خصوصا إذا ما تبين أن جل الأسر التي التقيناها في سياق هذا التحقيق، لم تراعِ الثقافة الجنسية في بيوتها، لاسيما أن الآباء والأمهات فضلوا التزام الصمت ازاء الاسئلة المتكررة لأبنائهم حول الأمور «الحساسة» ونهوهم عن اثارتها بدافع «العيب والحياء».
وتقر أم محمد (اسم مستعار) وهي أم لطفل في العاشرة من عمره تعرض لحادثة تحرش، بخطئها عندما اهملت الاجابة عن اسئلة ابنها المتعلقة باختلاف طبيعة جسد الذكر عن الأنثى وامور اخرى اكثر حساسية، لكنها ارجعت الأمر الى جهلها في موضوع الثقافة الجنسية.
تشير الأم التي انفصلت عن زوجها منذ زمن، إلى أنها اضطرت تحت وطأة السلوك العدواني لطفلها والتصرفات السلبية والاضطراب الدائم، لاصطحابه الى احد مراكز الطب النفسي في مدينة غزة، حتى كشف المستور وتبين أن الابن تعرض لتحرش متكرر على يد بائع البقالة المجاورة لمنزلها، وأنه كان ضحية ابتزاز ومساومة من الجاني ذي السابعة والعشرين عاما.
شعور بالذنب
انتقلنا الى المركز الصحي الحكومي الذي يتلقى فيه الطفل محمد علاجه النفسي لعامين كاملين للوقوف عن قرب على حالته، فوصف المرشد النفسي «هيثم» حالة الطفل بـ»المضطربة» حيث يتعرض بين حين وآخر لانتكاسات لشعوره بالذنب، غير أنه لفت الى تمكنهم من وقف التفكير السلبي الذي كان يدفع الطفل لإيذاء نفسه بضرب رأسه في الجدران والامتناع عن الأكل لأيام متتالية رغبة في الموت.
يلفت المرشد النفسي إلى أن الندبة النفسية لا تزال حاضرة في ذاكرة الطفل الذي تمكن بمساعدة المرشد من القضاء على التبول اللاإرادي وأضحى يروح عن نفسه بالرسم والألعاب الرياضية، ورفع نسبة التحصيل المدرسي من مقبول الى جيد.
معاناة الطفل محمد التي يؤكد المختصون أنها ممتدة على مدار العمر ولن تقوى الأيام على شطبها من مخيلته، لهي كفيلة لأن توقظ المجتمع من سبات «العيب» و»الفضيحة» لكبح جماح هذه الظاهرة التي تستفحل يوما بعد يوم في المجتمع الفلسطيني تحت ستار الجهل الاسري.
وجل ما يمكننا تقديمه لأسر الأطفال عبر هذا المنبر بعيدا عن الدور في فلك المشكلة، هو أن تحاول اقناع صغارها بعدم الاحتفاظ بالأسرار السيئة، وعدم التكتم على الاعتداءات الجنسية الواقعة عليهم، وأن تقول «لا» بصوت عال اذا ما حاول شخص ما التغرير بهم. باختصار: اصرخ، لأن صوتك احد رموز قوتك على من هم اكبر منك.
حملة الربع مليون توقيع لمناهضة الإستغلال الجنسي للأطفال