قائمة الموقع

"شهيد الواجب": لن أصوم رمضان وحجزت مكاني بالمقبرة !

2014-06-28T14:30:40+03:00
أبناء الشهيد حسين مسعود
الرسالة نت - أمل حبيب

كم من مرة تغير فيها لون بذلته الفسفورية ليمتص غضب الأرض .. وكم من مرة نطق لسانه الشهادة بين ألسنة نيران شوهت معالم الأجساد أمامه .. وكم من مرة ضحّى بعمره بحثًا عن آخر الأنفاس, وكم هي المرات التي احتضن فيها صغيريه "رهف ويوسف" كأنه الوداع الأخير!

لن تتمكن من حصر المرات السابقة في حياة رجل الدفاع المدني الشهيد حسين مسعود إلا أن الأخيرة كانت بعد أن اجتاح الغاز جسده النحيل وقد فرغت أنبوبة الأكسجين لاجتيازه المسافة المحددة التي تكفي لبقائه ضمن قائمة الأحياء.

ومن بين جثث شهداء الاعداد في حي الشجاعية كانت شهقة الرحيل لحسين بعد محاولات انقاذهم إلا أن أرواحهم غادرت أجسادهم في باطن الأرض.

لا مكان للسكَّر!

فنجان قهوة دون سكر كما وجوه الحاضرين دون ابتسامة ولون السواد يكسي أجسادهم المرهقة لقلة النوم بمناجاة طيف حسين !

العشرينية آمال شاهين زوجة الشهيد ألقت بهموم قلبها بعد رحيله على وجنتيه وهي تمسح براحتها على وجهه عله يعود لها بعد يوم عمل شاق بإجازة أسبوع يقضيها بينهم .. و ذرات الرمل التي مسحتها عن عينه وابتسامته التي أهداها لها أراحتها الدهر بأكمله !

ابتسامة الجندي المجهول كما جنود الإعداد المجهولين وحدها من حضر على حائط الغرفة, وضحكات الصغيرة رهف -ثلاث سنوات ونصف- مع دميتها ووعود لها بأن "بابا راح يجيب حاجات من الجنة الي والك".

أربعون دقيقة كانت مدة وصولنا الى المحافظة الجنوبية رفح وهي ذات المدة التي قضاها حسين للوصول الى غزة حيث مهمته هناك, إلا أن مشواره الأخير نحو حي الشجاعية سبقه حالة من الإلحاح على مديره في العمل بأن يسمح له بالتوجه مع فريق الدفاع المدني صوب المدينة, الا أن مديره وبحسب زوجته أكد له بأن اسمه غير مدرج فقال له حسين مازحًا: "اسمع أقلك خود الأربعة شيكل واشرب فيهم قهوة بكون وصلت ورجعت عندك".

حماسه وإصراره على التوجه إلى حيث شهداء الإعداد لكتائب القسام كان متوقعًا بالنسبة لزملائه في العمل لأن بطولاته السابقة تشهد له بذلك .

على قارعة الطريق

الحديث مع صندوق الشهيد الأسود كان له رونقًا خاصًا حيث المحطات والمشاهد التي تفيض لها العيون في حضرة توأم الروح ابراهيم .

"لماذا" حسين من رفح الى غزة ؟ هو السؤال الذي سألته مراسلة "الرسالة نت" لنفسها طيلة طريقها نحو عرس الشهيد الا أن حديث شقيقه عن أوسمة الشرف والعطاء التي علقت على صدر حسين لتضحيته خلال البحث عن شهداء بوابة المجهول بخان يونس, ووصوله إلى شارع النفق بمدينة غزة بعد غرقه إبان منخفض اليكسا رغم الحمى التي أصابته, ومشاركته في انقاذ أطفال من موت محقق بعد حريق منزلهم في المحافظة الوسطى, أجاب عن تساؤلنا بأنه رجل المهمات الصعبة ولا ضرورة "لماذا"؟ .

وبملامح وجهه الأقرب إلى الشهيد قال ابراهيم: "في حال استدعائه للعمل أو دون ذلك فإنه من أوائل المشاركين والمتطوعين", ويضيف بعد أن زفر الآه شوقًا وألمًا: "رحمه الله لا أنسى حزنه يوم تكريم وزارة الداخلية له بعد عمله الشاق في محاولة إخراج جثث شهداء بوابة المجهول في خانيونس وهو يردد على مسمعي: "كنت حابب أفرح أهلهم بجثة كاملة مش أشلاء".

تلك الفجوة المظلمة لم ترعبه يومًا، فبين ضلوعها عاش الحلم لإنقاذ روح, وكأن للحياة في جوف الأرض معنى آخر, وكأن حديث الطبيب المعالج له من فطريات نهشت ظهره بسبب البرودة في الأنفاق هو الوصف المناسب لحالته: "يا ابني هذا النوع من الفطريات لا يظهر إلا لإنسان يعيش تحت الأرض".

طيلة حديثنا مع شقيق الشهيد تخللها تتابع لدموع الحاج أبو غريب _والد الشهيد_ وكيف لخجل الحاضرين منها وكيف لهم أن يواسوه وقد رحل الغالي كما قال .

واسترجع إبراهيم إحدى المرات التي توجه فيها لإيصال طعام الغداء لحسين أثناء مهمة عمل, فبحث عنه بين زملائه إلا أنه علم بأنه لن يجده سوى في باطنها, وقال: "ابتسمت حينما وجدته نائمًا فوق كومة رمل, وابتسمت فخرًا به حينما برر السبب بأنه خشي تعطل الماتور فظل مناوبًا رغم انتهاء مدة دوامه المحددة". 

ذبذبات شبكة الاتصال بضعفها تارة وانقطاعها تارة أخرى لم تثن حسين عن تكرار محاولات تواصله مع شقيقه المقرب ابراهيم عبر جواله الذي أخفاه في حذائه رغبة في طمأنته بأنه بخير, اتصال أخير ودعوات ووعودات كانت كفيلة أن تدخل إبراهيم في صدمة طيلة عمره المتبقي دون توأم روحه الراحل!

عام واحد يكبر الشهيد حسين شقيقه ابراهيم .. وكان الوداع على مفترق طرق في المحافظة الوسطى بعد أن وصل إبراهيم إلى سيارة الإسعاف التي تقل الشهيد لبيته ..وملامح وكلمات لن يستحضرها وكأن روحه غادرت عامًا بحثًا عن شقيق الروح حسين وعادت !

لن أصوم رمضان!

ذات الحلم تحقق بالنسبة للصغيرة رهف التي لطالما حلمت أن تحضر عرس أبيها ككل الصغيرات اللواتي يشعرن بالضيق أثناء مشاهدة صور زفاف والدهن دون حضورهن, فقبل رحيل والدها باتت تردد: "راح ألبس بدلة في عرس بابا" . 

ارتدت ثوب زفاف أبيض بين الحاضرات المواسيات وخصيلات شعرها الأشقر تعكس بريقًا على صورة والدها بين يديها, مطالبة والدتها بالتصفيق لها لأن "بابا عريس" .

الحاجة أم غريب _والدة الشهيد_ حافظت على ابقاء رهف خارج غرفة ثلاجة الموتى لحظة وداعه لتبقى صورة والدها بحضنه الأخير لها هي كل ما تحمله له من صورة في ذاكرتها .

الليلة الأخيرة للشهيد مع أسرته كانت الأجمل بالنسبة لحسين كما عبرت آمال لـ "الرسالة نت" , حيث تفاجأت بزوجها وهو يحمل صغاره ويخرج الساعة الواحدة صباحًا وحينما لقت به لتسأله عن السبب ابتسم ورد عليها: "خليهم يشموا الهوا .. ويتعرفوا على حارتهم بالليل".

تصرفات حسين في آخر ليلة لم تدفع آمال للشك بأنه سيرحل مسرعًا في الغد, خاصة وأنه جهز بدلة عمله وأصر على كيها مرة أخرى وتعطيرها, وكأنه الإخلاص حتى في الرحيل!

والدة الشهيد قطعت حديثنا وقد امتزجت دمعتها بشيء أشبه بالبسمة: "روحي يمه قبل ما يستشهد بأسبوع كان يقول: "رمضان هادا مش صايمو أنا" .

ساعات وتفصل عائلة الشهيد عن شهر الصيام دون حسين و"نهفاته" وقت السحور والافطار  رحل كما وعدهم فلن يصوم الشهر بعد اليوم .
وما فتئت والدة الشهيد تترحم على ولدها خلال حديث زوجته عن آخر اللحظات, إلا أن قلبها ينفطر برؤية ابراهيم وحيدًا دونما ظله حسين .

السوافي والوعد الأخير !

"إذا عصبت يوم بكون من الضيق وظروفنا الصعبة .. سامحيني يا آمال وصحي الأولاد أسمع صوتهم" هو نصّ الحديث الأخير الذي وصل لزوجة الشهيد وقد بدأت تشعر بشيء من الاستغراب, خاصة بعد طلبه بسماع صوت رهف ويوسف!

رهف نبهت والدها بوعده للعب على آخر أرجوحة في منطقة السوافي في رفح بعد أن فرغت جيوبه من الشواكل ولم تلعب بها, واطمأنت بأنه باقي على وعده حينما يعود من العمل .

ورغم ظروف الشهيد الاقتصادية وعدم استلامه راتبًا كاملًا منذ ثمانية أشهر، إلا أنه استمر على رأس عمله الشاق بنفس الإخلاص والحماس, فآخر الأنات ورائحة شواء الأحياء وصراخ الاستنجاد بات جزءًا من حياته حتى يوم مماته وقد تشبع بالغاز السام بعد أن تجاوز المدة المحددة له بنصف ساعة وجازف محاولًا الوصول إلى جثث الشهداء أملًا بأن تكون الروح لم تغادر الجسد بعد .

وبحسب زوجته فان زميله في الدفاع المدني إسماعيل مطر نزل النفق لتفقده بعد أن مضى أكثر من نصف ساعة على دخوله, فوجده جالسًا غير قادر على الحراك, وحينما أراد مساعدته أشار حسين  بيده الى المصاب رائد عاشور وقال له :"سأتبعك الآن".

حسين لم يتبع زملاءه الذين خرجوا مصابين من فوهة النفق بعد اختناقهم من الغاز السام, حيث خرج محمولًا متلفظًا الشهادة, ودفن في المقبرة الشرقية برفح التي حجز له مكانًا فيها بجوار مولوده البكر.

يوسف الابن والشقيق!

يوسف الابن أسر والده الشهيد بحبه فكان آخر اتصال لزوجته يوصيها على الصغير وضرورة إعداد عصير البرتقال الطازج له لينتعش ويخفف عنه شيئًا من أجواء الصيف الحارة, في حين أن يوسف الشقيق أسره الاحتلال في سجونه منذ عشر سنوات حتى يقضي حكمه 19 عامًا ونصف.
حرمان الشهيد من شقيقه دفعه لتسمية صغيره يوسف على اسمه رغبة منه أن يستمر في مناداته لحين خروجه من الأسر وما برح لسانه يردد في كل رمضان " منايا أشوف يوسف ".

رحل حسين دون لقاء يوسف الشقيق في حين وزع الأسير الحلوى فخرًا لاستشهاد شقيقه وبطولاته في القطاع , وعلقت صورة الشهيد بجوار صورة الأسير في بيت عائلة مسعود في رفح فخرًا وشوقًا وألمًا .

وخلال زيارتنا بيت عزاء "شهيد الواجب" استمر الصغير يوسف في نومه بسلام كما نومة والده الأخيرة, إلا أن رهف أصرت على والدتها الاتصال بوالدها لتطلب منه الرجوع لأنها ستحضر لها وله "حاجات من دكان أبو سليمان" بدلًا من حاجات الجنة وهي تردد: "ماما الموت فيه رمل خليه يرجع !.. لم تعلم الصغيرة بأن حياة والدها وموته كانت تحت الأرض يحتضن الرمال وتحتضنه!

(عدسة: محمود أبو حصيرة)


"IMG_4342"

اخبار ذات صلة