قائمة الموقع

صلاح ومحمد.. دمعتان رُسمتا على وجه "عورتا"

2010-03-22T17:36:00+02:00

نابلس – الرسالة.نت

تبدأ الحكاية من سبع رصاصات أخافت الحمائم على رؤوس الأشجار وأرعبت حيوانات الوادي الأليفة فآثرت الهروب.. سبع رصاصات خطت طريقها غير مكترثة بلونها المعدني الأصفر المتحول إلى أحمر قانٍ في ثوانٍ معدودة، فواصلت سيرها معلنةً إزهاق روح محمد.

هو ذاته الشاب الملتحي الذي اعتاده محراب مسجد عورتا في صلاة الفجر رافعاً يديه يتمتم إلى ربه كلمات بقيت خزينة ذاكرته.. رحل مهدياً أمه في عيدها دمعةً وشهادة طالما تمنّاها بدعاء "ما قبل النوم"، وطالما بانت عليه بكرامات الشهداء في حياتهم.

إعدام.. مرة أخرى

وبين أكوام الكلمات التي تنحشر على مقدمة الألسنة غير قادرة على وصف المشهد، نطق أيمن (23عاما) شقيق الشهيد محمد قواريق لـ"الرسالة نت" بكلمات كانت كافية لمعرفة تفاصيل الاستشهاد ومكانه وجريمة الإعدام بثناياها، حتى إذا بدأ الكلام تحشرج الصوت مخنوقاً على حبيب رحل دون وداع.

ففي البداية كانت الصور تتحدث عن صديقين، هما قريبان من نفس العائلة يتبادلان الحديث ويتجهان نحو الوادي الشرقي من القرية، ولماذا ذاك اليوم بالذات؟ لأن المجلس القروي حدد للمزارعين عدة أيام لحراثة أراضيهم المهددة بالمصادرة وفق اتفاق مع سلطات الاحتلال التي من المفترض أن تترك الفلسطينيين وشأنهم في تلك المنطقة.

هو هذا الجزء الملقى على عاتق الاحتلال فقط، أن يترك المزارعين وشأنهم، ولكن حتى هذا لم يستطع الالتزام به مقتاداً بعقليته الإجرامية التي تغريه لإطلاق الرصاص في أجساد الفلسطينيين.

ومن هنا يكمل أيمن:" سمعنا عن شهيدين من القرية بجوار مستوطنة إيتمار، فتوجهنا مع عدد من الأهالي لمعرفة هويتهما، ولم أتوقع أن يكون محمد بينهما لأنني أعلم أن هذا اليوم مخصص للمزارعين وليس للاحتلال شأن بهم.. قالوا إن اسميهما صلاح ومحمد القواريق فأيقنت أنه شقيقي وابن خالتي فانهمرت دموعي قبل أن أراهما، وانتظرنا وصولهما إلى مستشفى رفيديا، حتى أمعنت النظر في محمد ووجدت الرصاصات السبعة تخترق الجزء العلوي من جسده، أما صلاح فخمس رصاصات كانت كفيلة بإعلان استشهاده".

وكل الشهادات التي تغرس الأرض صدقاً تُقسم أن جنود الاحتلال اقتربا من الشهيدين وهما يزرعان، واستجوباهما في المكان ذاته ثم تكلم السلاح دون سابق إنذار، أو كما اعتاد الفلسطينيون تسميته بالدم البارد.. ثوانٍ قليلة تحولت فيها أجساد الشابين إلى جثث هامدة معطرة بمسكٍ صرف الجنود عنهما وأعادهم إلى مخبأهم ينتظرون فريسة أخرى.

لهم أجرهم ونورهم

ولأن قصص الشهداء اعتادت أن تأخذ حيزاً في حياة الفلسطينيين أينما وجدوا، فالحديث يطول في ذاكرتهم عن ابتسامات الشهداء في أعراسهم، ولكنّ أهل محمد لم تأخذهم أنهار الدموع بعيداً عن محياه المبتسم..

"انظر يا أيمن إلى وجهه.. إنه يبتسم، حقا يبتسم!" هكذا استبدلت والدته الصراخ والأنين والنواح والعويل، حتى كللها الصبر بثوبه الساكن، فكان الحمد رفيق لسانها والدعاء ما تردد عنها فقط..

"كانت أمي هي التي تمدنا بالصبر والعزاء، وتقول لنا إنه طالما تمنى أن يكون شهيداً محمولاً على الأكتاف، وتطلب منا ألا نبكي ولا نحزن، ذرفت بضع الدموع فقط عندما ودعته وخرج من البيت ثم عادت للتسبيح وحمد الله".

محمد الهادئ الذي كان في عطلة من دوامه الجامعي في "القدس المفتوحة"، آثر مساعدة ابن خالته في ذلك اليوم، حتى مزقت الرصاصات أحلامه بدخول تخصص الشريعة كما أراد وفارق "ملاك" الصغيرة التي سمّاها "مدللة محمد".

وتلك ملاك هي شقيقته الصغرى البريئة، بضع سنوات من عمرها كان محمد رفيقها فيها يلاعبها ويحادثها ويعلمها من سيرة نبيها أو سور كتاب الله، حتى تعلقت به كما الطفل بأبيه، ثم رحل فجأة عنها.. بحثت في ثنايا البيت فلم تجده، سألت عنه فقالوا لها إنه في الحقل.. انتظرته طويلاً ولم يأتِ.. ثم رأته قادما من بعيد، لا يمشي ولا ينظر إليها بل إلى زرقة السماء محمولاً بين الجموع.. نظرت إلى الوجوه تبكي كلها، فبكت للمشهد، وربما هي لا تفقه الآن ما الذي حدث، ولكن الكلمة الوحيدة المنسابة على لسانها أنه "في الجنان".

ويغرق الحديث في حزن الموقف، حتى إذا تكلم أحمد شقيق الشهيد صلاح، قاطعته الدموع مراراً، والحزن مرات أكثر، ولم تسعفه سوى كلمات مقتضبة خرجت قسراً من أعماق قلبه وكأنه لا يريد للذكرى أن تسيطر عليه فينهار أمام الحاضرين.

فيقول:" ذهب صلاح صباحا مع محمد، ولم ندر لم تأخرا، حتى سمعنا عن استشهادهما، ولم أصدق ذلك، وحتى الآن تمر علي لحظات لا أصدق فيها أنهم قتلوا شقيقي وصديقي.. كيف أفقده في لحظات؟.. لا أعلم.." ثم تقطّع الصوت مكلوماً وغاب وراء الدموع يرثي أحبةً كانوا يجعلون العيش أجمل.

 

اخبار ذات صلة