عند الدخول إلى بلدة بيت حانون تستقبلك أم أحمد أبو شاويش، تلك العجوز الستينية التي جاءت من ملجأ الإيواء في مخيم جباليا لتقف على حال بيتها بعد نحو عشرة أيام من النزوح، فوجدته كومة ركام.
لقد صدمت هذه السيدة بما رأت فسقطت على الأنقاض تلتقط قليلا من الحصى وتلقي بالفتات على جسدها وتنحب. تتنهد العجوز طويلا ثم تلقي أهزوجة الرثاء "راحت الدار وما ضل الا الحجار"، تقولها والدموع تشق طريقها على وجنتيها المنكمشتين، ثم تعود وتسأل "لماذا هدموا بيتي، هل أطلقت عليهم النار؟".
من بعيد جاء اثنين من أبناء السيدة التي أذاب الهرم ساقيها، لينقلاها إلى المأوى مجددا، وهي تقول "سبوني أموت هان يمّا".
تلك الحادثة أيضا تكررت مع مئات الأسر في هذه البلدة الحدودية التي يزيد عدد سكانها عن أربعين ألف نسمة، معظمهم تضرروا إما بفقدان الأرواح، أو المساكن، وآخرون تكبدوا خسائر اقتصادية ضخمة على ضوء الاستمارات القائمة في هذه البلدة الزراعية من مزارع دواجن وماعز.
في الجانب الشرقي من البلدة، يعيق الركام سير الأهالي الذين جاؤوا مع الساعة الثامنة صباحا (زمن بدء التهدئة المؤقتة)، في شارع فرعي خبأ محمد الكفارنة دموعه عن المارة وهو يتكئ على محراث أعطبته الآليات العسكرية.
لما اقتربنا من الرجل الأربعيني أشاح بيده رافضا التصوير، مطالبا الالتفات إلى الخسائر التي تكبدها في مسكنه المكون من ثلاثة أدوار وتقطنه ستة أسر يزيد عدد أفرادها عن 25 فردا، فضلا عن نفوق نحو 50 رأسا من الماعز بعد أن استهدفتها الآليات العسكرية التي تبعد عن المسكن مئات الأمتار.
اصطحبنا الرجل للصعود على سلم المسكن المتآكل بفعل القصف، لنفاجئ بحرق المسكن بجميع مقتنياته، هنا فيما كانت غرفة استقبال الضيوف، وقف الكفارنة ينحب ويقول "هذه هو الكفر بعينه.. لماذا كل هذا الدمار يا اسرائيل؟".
ويشير الرجل المكلوم، إلى أنه فقد ما يزيد عن مائتي ألف دولار نتيجة نفوق مزرعتيه (الدواجن والماعز)، مبينا أنه لم يتمكن من اخلاء مقتنيات المنزل لاسيما الأموال والمصاغ، فهرب تحت وطأة القذائف لينجو ببدنه وأولاده.
وتبدو البلدة بمشهدها القائم، أقرب الى مشهد النكبة الفلسطينية عام 1948، خصوصا حافلات النازحين التي يعتليها قليل من الفرش والأغطية، ما فتئت تنقل الأهالي المشردين.
ومن بعيد أخذت تنظر أم عبد الله أبو عودة الى بيتها الهاوي، وتقول "عادة الهجرة من جديد يا عالم.. أليس من حق الفلسطينيين أن يعيشوا بسلام وأمن، لقد مللنا الموت والدمار.. من حقنا نعيش".
وسابق النازحون الزمن، وهم يعودوا مساكنهم التي خلفوها قصرا مستغلين بذلك التهدئة المؤقتة التي تمتد نحو اثنى عشر ساعة، ليقفوا على المشهد عن قرب.
هنا يبدو المكان أشبه بمخلفات زلزال، فالجرف الصامد المزعوم وهو اسم العملية العسكرية على غزة لم تبق ولم تذر شيئا بعد نحو عشرين يوما من الحرب، حيث حولت المنازل إلى قطع من حصى تدفن داخلها ذكريات السنين.
أما عن العجائز والشيوخ فخرجوا مشيا على الأقدام يحملون على ظهورهم قليل المستلزمات، ليتدثروا بها من لفحات القصف. وتهم أم خالد فهمي لتخرج من بيتها الذي طال القصف أعلاه حاملة بين ذراعيها أنبوبة غاز، وقالت بلهجتها المتواضعة بينما كانت أقدامها تتعثر بالركام "هي الي ضللنا جينا ندور على شوال الطحين وأنبوبة غاز.. يا ويلي على الي حصلنا"، معبرة عن أملها بأن تنتهي الحرب ويتمكنوا من أن يعيدوا بناء ما دمره الاحتلال.
غادرنا البلدة وسيارات الاسعاف وطواقم الدفاع المدني لا تزال تبحث عن الجثامين التي خلفتها آلة الموت، حيث بلغ عدد الشهداء 1000 شهيد وفق آخر احصاءات. وظل سماء المكان ملبدا برائحتي البارود والدماء، ما ينذر بسقوط مزيد من الخسائر اذا ما عادت الحرب مساء تطحن ما تبقى في هذا المكان وتجهز على آخر انفاسه.
(عدسة: خالد طعيمه)