لم يكن الحوار بينهما ككل مرة، فلا فنجان قهوة ولا ضحكات للصغيرة دانة .. بينهما فقط ركام الدار وحاجز اسمنتي يحجب الضوء والملامح والدمعات، ولا يتسرب من خلاله سوى نبرة صوتهما، ووصية حصرية لآخر الأنفاس تحت الأنقاض.
ساعة من الزمن عايشها الشهيد محمد ضاهر محرر الصفحة الاقتصادية في صحيفة "الرسالة" بباطن الأرض يناجي خلالها طيف أحبّته علّها تجبه، بأن الحياة ستمر من هنا مجددًا، إلا أن صرخات استغاثة زوجته شيماء شابط دفعته لمواساتها تارة وطلبها بإزالة الحجارة المكبّلة قدميه تارة أخرى.
لم يبق للعشرينية شيماء سوى أنات محمد وطلبات شقيقته بيسان بكوب ماء ليؤنس وحشتها خلال احتجازها تسع ساعات تحت الأنقاض، قبل أن يهديها القدر فرجا بانتشالهم.
في غرفة العناية
لا شيء سوى الأسلاك على جسده وملامح بدّلتها ساعات الإقامة الجبرية تحت الأنقاض.. دقائق في العناية المكثفة بجوار سريره أيقنا خلالها بأنه لم يعلم بعد أن صغيرته دانة لا تزال في بقعة الموت هناك، وخمسة من أفراد عائلته وقد سبقوه الى حيث السلام.
لم يحدثنا محمد ولم يُهدنا ابتسامة كعادته بين زملائه في أروقة "الرسالة"، إلا أننا طلبنا منه أن يصمد واخترقنا صمت المكان مرددين: "شد حيلك.. ننتظر عودتك يا محمد". ازداد رنين جهاز تخطيط القلب وكأنه الوجع الذي يسكنه وسكننا بعد رحيله تزامنا مع إفادة الطبيب المتابع لحالته بأنها حرجة؛ بسبب معاناته من نزيف في الدماغ تبِعه فشل كلوي، مما دفعنا لسؤال الله أن يختار له الأفضل في الدنيا أو الآخرة.
عشرة أيام بلياليها قضاها محمد بين الحياة والموت في غرفة العناية المكثفة بمجمع الشفاء الطبي، الى أن رحل متأثرا بجراحه التي أصيب بها في العشرين من يوليو، إبان مجزرة حي الشجاعية شرق غزة، حيث قصف الطيران الحربي منزل عائلته دون سابق انذار في العاشرة صباحا.
العيد.. أمل وألم
لم تعلم الأرملة شابط أن نهاية يوليو ستمثل لها فاجعة تستوطن ذاكرتها كما أصحاب القبعات المستديرة في وطنها. طرقنا بابها في أول أيام العيد لنواسيها ونهديها فخرنا بمحمد.
رغبتنا في معرفة تفاصيل الحياة تحت الأنقاض لم تدم طويلا، حيث انفجرت بالبكاء لاستحضار مشهد صغيرتها دانة، التي تجاوزت العام بشهرين، وهي تركض باتجاه جدتها فرحا لانتزاع هاتف أمها الخلوي في المشهد الأخير قبل أن يجتاح الموت جنبات المكان.
دانة التي وصلت إلى حضن جدتها بعد أن قبلت قدمي والدتها، حاولت أن توصل رسالة مفادها بأنها سترحل وقد اختارت مرافقة جدتها وجدها وعمها وعمتها الى مستقر رحمة ربها.
العناية الالهية وبركة دعاء والدة شيماء خرجت على إثرها بجراح طفيفة من تحت الأنقاض، وقد توالت صرخاتها كلما سمعت صوت سيارات الاسعاف من المكان. وتقول لـ "الرسالة نت": "شعرت بسخونة تقترب من وجهي وبعدها أدركت أنني تحت الطبقات الثلاث من المنزل".
وتابعت، بعد أن عبّرت دمعتها عن شوقها لرائحة دانة: "تواصلت في الحديث مع محمد قرابة الساعة إلا أنني لم أر شيئا سوى يد أدهم شقيق زوجي، التي تحولت تدريجيًا كما قطعة الثلج فعلمت بأن الموت يأخذنا نحوه تدريجيا".
وكما رحيل أدهم تدريجيا، تسلل اليأس الى قلبها كذلك، الى أن سمعت صوت أحد أقارب العائلة وهو ينادي: "هل من أحد هنا؟" فصرخت وجعا بأنها ضمن قائمة الأحياء وزوجها وشقيقته، الى أن وصل أحد المسعفين وانتشلها بأدوات بدائية، ثم فرّوا من بقعة الموت.
سكن الأمل قلب الجريحة شيماء في أول أيام عيد الفطر بأن يلم شملها وزوجها من جديد، حيث ما فتأت تدعو الله أن يحفظه لها؛ لتحافظ على بقايا صمودها من صموده، إلا أن ذاك الأمل مات سريعا بعد أن اجتاحت الحسرة فؤادها رابع أيام عيد الفطر برحيل محمد شهيدا صبيحة الخميس الأخير من يوليو الأسود.
ستزور الأرملة حطام الدار غدا، وستسقي تربة زوجها وصغيرتها بالدموع ألما؛ لإكمالها المشوار دون بسمتهما.
لم يعد للحديث بقية
سألنا عن ذاك الطفل المنتَظر، الذي حدثنا عنه محمد مرارا وعن تجهيزاته لاستقباله، ورغبته في توزيع الحلوى حينما يبصر النور. هو عبد الرحمن محمد ضاهر، الذي سينفرد بحمل اسم والده الشهيد بعد شهر من رحيله، حيث لا يزال يسكن أحشاء أمه كما سكنت شقيقته أحشاء الأرض الى أن تم انتشالها وذويها أول أيام العيد، بعد تحلل أجسادهم لمحاصرة قوات الاحتلال حي الشجاعية وتتابع الضربات عليه.
وعود محمد بتوزيع الحلوى فرحا بمولوده عبد الرحمن ستوفيها "الرسالة" له وستوزعها فرحا وفخرا به ووالده الشهيد، الذي تميز بالتزامه في عمله واخلاصه.
كنّا نظن بأن للحديث بقية حينما يستفيق محمد من غيبوبته، ليحدثنا عن وجعه برحيل عائلته، إلا أنه لحق بهم مشتاقا لهم وللقاء ربه، تاركًا مقعده في "الرسالة" شاغرا.