قواعد تحضير مائدة السفرة تغيرت ليومٍ في عائلة جودة، فقد قرر رب الأسرة أبو مصطفى أن يعد مائدة طعام لأسرته، وطلب منهم الجلوس في حديقة المنزل حتى يقدم طعام الغداء، وما أن قاربت الساعة الرابعة عصر الرابع والعشرين من آب/أغسطس، حتى اختلطت ضحكات الصغار بصوت انفجار.
تطايرت أشلاء العائلة مع ورود الياسمين التي ملأت حديقة منزلهم، وتنسم المكان عبير رائحتهم ممزوجًا برائحة أوراق النعناع، فقد باغتتهم طائرة استطلاع حربية وأطلقت صاروخين عليهم، ما أودى بحياة خمسةٍ منهم، وأصيب السادس بإصابات بالغة الخطورة.
" كانوا سعداء كونهم مجتمعين مع والدهم ووالدتهم، والبيت يهتز لأصوات ضحكاتهم، ويبدو ذلك أزعج إسرائيل، فقتلتهم" يقول ابن عم العائلة محمد، ويضيف " استشهدت الأم راوية وعمرها 40 عامًا، واستشهد الأشقاء محمد (8 أعوام) وأسامة (7أعوام)، وتسنيم (14عامًا) ورغد (13 عامًا)، وبقي ثائر على سرير الموت يصارع الحياة".
ابن عمهم محمد زارهم قبل استشهادهم بأيام، ونقل لـ"الرسالة نت" أحاديثهم المستمرة عن جرائم الاحتلال بحق الأطفال، وخوفهم من القصف الذي لم يفرق بين حجر وبشر.
يتابع محمد " كان أسامة ينتظر افتتاح المدارس ليذهب للفصل الدراسي الجديد، ودائمًا ما يخط رسوماته على دفتر الرسم، ويهيء نفسه للتعلم".
سياسة الاغتيالات بحق الأطفال لم تلب رغبات ثائر في اللحاق بمدرسته، كغيره من الأطفال، فقد قتلت "إسرائيل" ما يزيد عن 500 طفلٍ خلال العدوان المستمرة على غزة، وأصابت ما يزيد عن 3307 آخرين.
رحل أفراد العائلة، وبقي الطفل ثائر (11 عامًا) ملقىً على سرير الموت في مجمع الشفاء الطبي، ينتظر رحمة القدر ليعيش، أو يلحق بركب الشهداء من عائلته.
إصابة الطفل ثائر خطرة وفق الأطباء، وهو يتلقى العلاج بمجمع الشفاء الطبي، لم يستطع أحد أن يقدر كم من الوقت سيعيش، وهل سيكمل تعليمه أم يلتقي بأشقائه وأمه. فقد بترت قدمه وأطرافه الأمامية، وأصيب كامل جسده بشظايا، ووجهه بحروق.
وفي زيارة الـ "الرسالة نت" إلى مجمع الشفاء، التقت بعدد كبير من أصدقاء العائلة، جميعهم حضروا للتبرع بالدم بعد سماعهم أن حالة ثائر الصحية خطرة، وأن نسبة دمه انخفضت بشدة.
محمد الهسي (18عامًا)، -صديق العائلة- لم تساعده حروفه على التعبير من شدة خوفه على حياة الطفل ثائر، فما أن سمع أنه بحاجة إلى التبرع بالدم، حتى هرع إلى مجمع الشفاء بغزة، وبدأ بعمل الاجراءات اللازمة.
يقول الهسي " والدهم رجل بسيط، ولا أحد بداخل البيت من المقاومة، ولم تطلق أي قذيفة بالقرب منهم، إلا أن طائرة الاستطلاع رصدتهم وأطلقت حممها عليهم لتغتال طفولتهم".
وبجوار رأس الطفل ثائر تقف عمته على قدميها، ترفض الجلوس على الكرسي لتستريح لدقائق، وتقول " كيف أرتاح وابن أخي بين الحياة والموت".
تراتيل الدعاء لم تفارق المكان أملًا بأن يمد الله في روح ثائر، ودموع عمته لم تتوقف، ويعتصر الألم قلبها، وتقول "ما خلوا حد عايش في البيت إلا الأب وبنته الصغيرة كانت تحضر الأكل معاه جوا البيت، وأخوهم مصطفى مسافر برا البلد، وأبوهم راح يعيش بحسرته، والطفل ثائر إن عاش راح يظل طول عمره بلا حركة".
تفقد العمة السيطرة على أعصابها وتصرخ وحبالها الصوتية ترتجف من تأثير البكاء، فتقول " مش عارفة شو عملوا الهم هدول الصغار، يمكن ذنبهم أنهم كانوا يبكوا ويخافوا لمن يسمعوا صوت القصف، فقتلتهم "إسرائيل".
ولم يستطع رب الأسرة الحديث إلا بقول "حسبنا الله ونعم الوكيل"، مخزنًا دمعاته داخل قلبه، ومؤمنًا بقضاء الله وقدره.
(عدسة: محمود أوحصيرة)