إن أحد أبرز النتائج التي أفضت إليها الحرب (الإسرائيلية) على غزة يتمثل في انهيار جدول الأعمال الاقتصادي الاجتماعي، الذي نجحت في تكريسه الاحتجاجات والمظاهرات العارمة التي اندلعت في 2010، التي عمت معظم المدن (الإسرائيلية) احتجاجاً على ارتفاع الأسعار وتفاقم أزمة السكن.
ولقد كانت هذه الاحتجاجات العامل الرئيس الذي أثر على نتائج الانتخابات الأخيرة، حيث حل حزب "ييش عتيد"، برئاسة وزير المالية الحالي يائير لبيد، والذي تعهد بتبني مطالب المحتجين، في المركز الثاني بعد حزب "الليكود الحاكم".
إن أوضح مؤشر على تراجع بريق الأجندات الاجتماعية والاقتصادية يتمثل في نتائج استطلاعات الرأي العام المتواترة، التي أجريت في أعقاب إعلان وقف إطلاق النار، حيث دللت هذه الاستطلاعات على تراجع قوة "ييش عتيد" بشكل كبير، من حيث تعاظم التأييد لحزب "البيت اليهودي"، الذي يمثل التيار الديني الصهيوني، واليمين المتطرف بشكل عام، والذي يتزعمه وزير الاقتصاد نفتالي بنيت.
ومن الواضح أن تعاظم التأييد بشكل خاص لحزب "البيت اليهودي"، يعكس الاتجاهات العامة للرأي العام في الكيان الصهيوني، حيث كان زعيمه بنيت أكثر الوزراء حماسة لتواصل الحرب على غزة وتعميقها وجاهر برفضه اتفاق وقف إطلاق النار، ولم يتردد في وصف رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو بـ"التردد والجبن".
وبشكل عام، فإن استطلاعات الرأي العام تؤكد أنه في حال أجريت الانتخابات العامة في الوقت الحالي، فإن اليمين (الإسرائيلي) سيتمكن من تشكيل حكومة حتى بدون الاستعانة بالأحزاب التي تمثل التيار الديني الحريدي، ممثلاً في حركتي "شاس" و"يهدوت هتوراة"، مع أن هاتين الحركتين حليفتان طبيعيتان لليمين.
وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي العام تدلل على أن أغلبية (الإسرائيليين) لازالت ترى في نتنياهو المرشح الأنسب لقيادة (إسرائيل) في المرحلة المقبلة، إلا أنه في حكم المؤكد أن تأثير قوى اليمين واليمين المتطرف على دوائر صنع القرار ستتعاظم بشكل غير مسبوق بعد تشكيل الحكومة القادمة.
ويبدو إن المجتمع (الإسرائيلي) قد اختار الفرار للأمام، حيث أنه في الوقت الذي أثبتت فيه الحرب على غزة بؤس الرهان على خيار القوة العسكرية، إلا أن الأغلبية الساحقة من (الإسرائيليين) اختارت تحديداً مواصلة التشبث بهذا الخيار عبر منح الثقة للقيادات ذات التوجهات المتشددة في كل ما يتعلق بالمقاومة الفلسطينية.
ومن الواضح أن أكبر الخاسرين من هذه التحولات هي الطبقة الوسطى، التي مثلتها بشكل خاص الفئات الشبابية التي نظمت الاحتجاجات الاجتماعية، والتي ركب موجتها لبيد، الذي كان حتى ذلك الوقت مجرد مقدم برامج اخبارية في القناة الثانية.
فتغليب الأجندة الأمنية على الأجندة الاجتماعية بعد الحرب يعني بشكل واضح إضافة الكثير من المال لموازنة الجيش. فقد كشفت قناة التلفزة (الإسرائيلية) الأولى النقاب عن أن هيئة أركان الجيش تطالب بإضافة 19 مليار شيكل (حوالي 6 مليار دولار) لموازنة العام 2015، ومن الواضح أن هذه الزيادة ستكون على حساب موازنة الوزارات الخدمية الأخرى، وستؤثر حتماً على مخططات وزارة المالية لمساعدة الأزواج الشابة في الحصول على سكن في ظروف مريحة.
وعلى الرغم من أن لبيد يدعي حتى الآن التصميم على عدم زيادة الضرائب لتغطية نفقات الحرب، إلا أن معظم المعلقين الاقتصاديين يؤكدون أن زيادة الضرائب باتت أمراً محتماً.
ومما لا شك فيه أن المستوطنين اليهود في الضفة الغربية والقدس المحتلة هم أكثر قطاعات (الإسرائيليين) ارتياحاً للتحولات المرتقبة في موازين القوى الحزبية.
فليس سراً أن حزب "البيت اليهودي" هو أكثر أحزاب اليمين تمثيلاً للمستوطنين، فباستثناء بنيت والنائب إليت شكيد، فإن جميع نواب ووزراء هذا الحزب هم من المستوطنين، علاوة على أن المرجعية الدينية الأبرز للحزب هو الحاخام دوف ليئور، أحد أكثر الحاخامات تطرفاً في مستوطنات الضفة.
ومن نافلة القول، إن زيادة تمثيل "البيت اليهودي" في الحكومة القادمة يعني طفرة هائلة في المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية، مع العلم أن لوبي الاستيطان في البرلمان (الإسرائيلي) يضمن نواباً من جميع أحزاب اليمين والكتل الدينية.
وعلى الرغم من أن نتنياهو تباهى طوال الحرب وبعد أن وضعت أوزارها بحجم التأييد الذي تحظى به (إسرائيل) لدى "محور الاعتدال العربي" مقارنة بحركة حماس، فإن تشكيل حكومة بناء على استطلاعات الرأي التي تجرى الآن، سيقلص من هامش المناورة أمام قادة "معسكر الاعتدال" بشكل كبير وسيحرجهم إلى أبعد حد.
فمنذ الآن وحتى قبل تحديد موعد الانتخابات القادمة، فإن نواب عن أحزاب "الليكود" و"البيت اليهودي" و(إسرائيل بيتنا) و"شاس" يجاهرون بنيتهم تقديم مشاريع قوانين لتغيير الواقع القانوني والديني في المسجد الأقصى.
وضمن هذه المشاريع، مشروع ينص على تفعيل السيادة (الإسرائيلية) على المسجد، والذي يعني تطبيقه، نقل الإشراف على المسجد الأقصى من دائرة الأوقاف الإسلامية إلى وزارة الأديان (الإسرائيلية)، ناهيك عن جملة من المشاريع الكفيلة باشعال الأراضي الفلسطينية.
ومن الواضح أن تعاظم قوة اليمين بشقيه الديني والعلماني في الانتخابات القادمة سيزيد من وتيرة سن التشريعات المجنونة، التي ستحرج قيادة السلطة الفلسطينية و"محور الاعتدال"، حيث أنه بخلاف الحرب على "حماس"، فإنه سيكون من المتعذر تبرير الصمت على الاعتداءات على المقدسات الإسلامية.
أما عن مستقبل التسوية السياسية للصراع، فإنه من الأهمية بمكان استحضار ما جاء في المقابلة التي أجرتها مؤخراً إذاعة القناة السابعة، التي تمثل المستوطنين مع الوزير بنيت.
فقد سئل بنيت عن ردة فعله في حال التقى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في مكان ما، فرد قائلاً: "سأقوم بضمه لصفوف "البيت اليهودي" وأطلب منه أن يصنع لي فنجاناً من القهوة".