لا تبدو حالة الجمود والخلاف المتجذرة في الواقع الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية الا انعكاسا للازمة العميقة التي يعيشها قطبا السياسة الفلسطينية "فتح وحماس" والحقيقة ان موطن الالم في الجسد الفلسطيني لا يوجد في الرواتب او حكومة التوافق او الاعمار.
إن الورم الحقيقي الذي يزداد احتقانا يكمن في الملف السياسي والاستراتيجية المختلفة التي تعتمدها الحركتان في رؤيتهما لحل القضية الفلسطينية واقامة الدولة.
تجاهل ابو مازن لغزة وعدم زيارتها، خاصة في ظل الوضع الكارثي الذي تعانيه، يبرره من حوله بأنه لا يريد ان يكون "طربوشاً", وقد كان عباس واضحا في حديثه المتكرر بعد الحرب بأن تسلمه لإدارة غزة يقابله شروط اختصرها بكلمتي "سلطة واحدة وسلاح واحد", وبمعنى أدق تطبيق نموذج الضفة في الشق الآخر من الوطن.
الضفة 2
ترجمة شروط عباس على الارض تعني ان الرجل لن يدخل القطاع الا في حالة واحدة فقط، وهي أن يصبح قطاع غزة "الضفة 2" بمعنى حل الاجنحة العسكرية للفصائل وسحب سلاح المقاومة وبسط سيطرة اجهزته الامنية على القطاع وعودة التنسيق الامني ومنع كل اشكال المقاومة.
جوهر الصراع وانعدام الثقة بين الحركتين نابع من شعور كل منهما ان الاخر يريد فرض برنامجه عليه ان لم يكن بالحوار والتوافق الذي فشل حتى الان فبالقوة وفرض سياسة الامر الواقع.
ويبدو ان هذا الهاجس هو ما يقض مضاجع أبو مازن منذ سنوات ويجعله في حالة عصبية وتوتر شديدين ظهرت بقوة في محضر اجتماع الدوحة المسرب الذي جمعه بأمير قطر وزعيم حماس خالد مشعل, كشف خلاله أبو مازن عن رعبه من انتقال المقاومة للضفة خاصة عندما قال وطائرات الاحتلال تدك غزة "البعض يريد ان تشارك الضفة في القتال وقلت على جثتي".
الى جانب حالة الجنون التي اصابته بعدما ابلغه رئيس الشاباك انهم القوا القبض على خلية من حماس تهدف الى تفعيل المقاومة بالضفة وتنفيذ عمليات ضد (إسرائيل), وهو ما اعتبره محاولة انقلاب ضده.
فالرجل يعتبر أن اي طلقة ضد (إسرائيل) موجهة اليه شخصياً على اعتبار ان سلطته الهشة لن تتحمل اي رد فعل (إسرائيلي) قوي على عمليات المقاومة التي قد تنفذ في الضفة, وهذا ما أكده ماجد فرج مدير المخابرات الفلسطينية في الاجتماع الثاني الذي عقد في الدوحة.
الحرب الاخيرة أكدت ان حماس لا تحارب (إسرائيل) وحدها، وأن الوفد الفلسطيني في القاهرة لم يكن موحدا على المطالب الفلسطينية بالقدر الكافي, ولم يذع سراً موسى ابو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحماس عندما كشف قبل ايام ان اول من رفض مطلب رفع الحصار كان ابو مازن؛ لأن ذلك يعني نجاح لاستراتيجية حماس في المقاومة وبالتالي ضرب استراتيجية المفاوضات التي يتبعها منذ عشرين عاماً وأقر بفشلها الذريع في اجتماع الدوحة.
حديث ابو مرزوق تؤكده مباحثات القاهرة المعقدة، والتي حاولت خلالها جماعة الرئيس ربط كل بنود الاتفاق بطرف ثالث سواء الامم المتحدة او حكومة التوافق، في محاولة لسحب البساط من تحت أقدام حماس واعادة سيطرة السلطة على القطاع.
محاولات مبكرة
الكاتب والمحلل السياسي هاني المصري رأى أن معسكر الرئيس يحاول تعميم نموذج السلطة في الضفة على قطاع غزة، ويقدمه باعتباره النموذج الناجح، ويتجاهل الضرر الفادح الناجم عن التخلي عن معظم أوراق القوة والضغط، خصوصًا خيار المقاومة الذي من دونه لا يمكن استعادة الحقوق وتحقيق الأهداف، حتى بحدها الأدنى.
وأكد في مقال له أن أصحاب هذا الخيار ما زالوا يراهنون على "اتفاق أوسلو" والتزاماته واعتماد استراتيجية الانتظار والبقاء والتكيف مع الاحتلال حتى بعد أن تخلت الحكومات (الإسرائيلية) المتعاقبة عن الالتزامات (الإسرائيلية) فيه، ومضت في ابتلاع الأرض وتهويدها واستيطانها، وخلق أمر واقع جديد يجعل الحل (الإسرائيلي) هو الحل الوحيد الممكن عمليًا.
"إن فشل نموذج الضفة ليس سياسيًا فقط (المتمثل في إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة على الأرض، وهذا هو المعيار الأساسي للحكم له أو عليه)، بل هو فشل كذلك في إقامة نظام يحفظ حقوق الإنسان وحرياته، ويضمن إجراء الانتخابات الدوريّة المنتظمة، ويحمي التعدديّة والمنافسة، ويوفر المساواة والعدالة الاجتماعيّة وتكافؤ الفرص، ويؤمن الاقتصاد الوطني وعوامل الصمود", كما يقول المصري.
اتفاق مكة بين فتح وحماس عام 2007 كان محاولة مبكرة لتفادي الصراع بين البرنامجين، لكنه لم يتمكن من الوصول الى الحد الادنى من التوافق السياسي، وهذا ما أدى الى انفجاره بعد اسابيع قليلة, وقد قال يومها القيادي في حركة فتح نبيل عمرو لأحد قيادات حماس في مكة " اما بنجيبكم على مشروع التسوية او راح تأخذونا لبرنامج المقاومة".
الانتقادات الكبيرة التي طالت حماس بعد اتفاق المصالحة الاخير في غزة لم تثنها عن عبور طريق المصالحة حتى النهاية رغم كل العقبات, فحماس لا تخفي رغبتها في جر حركة فتح وقيادة السلطة الى مربعها المقاوم.
ورغم كل ما تعانيه المقاومة في الضفة وخاصة حركة حماس التي يتناوب كل من السلطة والاحتلال اعتقال عناصرها وقادتها باستمرار, الا انها ما زالت ترى في الضفة الساحة الابرز والاقوى للمقاومة على اعتبار ان انفجارها في وجه الاحتلال سيشكل ضغطا كبيرا عليه بسبب قربها الجغرافي.
فتح جبهات
انتقال الصواريخ والقدرات القتالية الموجودة بغزة للضفة تعتبر الرعب (الإسرائيلي) الاكبر منذ سنوات, والذي يجعل الاحتلال ينسق ليل نهار مع الاجهزة الامنية هناك لمنعه.
وكان لافتا جنون ابو مازن من عملية أسر المستوطنين الثلاثة في الخليل قبل حرب غزة والتي ادانها منذ اليوم الاول، بل واوعز الى اجهزته الامنية بالعمل المتواصل لإيجاد منفذيها, وبالفعل كان لأجهزة السلطة الفضل في الكشف عن اختفاء اثنين من عناصر حماس في نفس يوم العملية, وتسليم هذه المعلومات للاحتلال.
جهود حماس لنقل نموذج غزة للضفة واضحة وقوية في السنوات الاخيرة، فهي تعتبر أن ساحة المقاومة الحقيقية ضد (إسرائيل) موجودة في الضفة، التي ما زالت محتلة، وهناك نقاش وبحث حقيقيين عن آليات وسبل تجاوز العقبات السياسية والأمنية التي تضعها السلطة والاحتلال معاً.
وبمجرد أن انتهت الحرب على غزة صرح محمود الزهار القيادي في حماس بضرورة تفعيل المقاومة بغزة لتقصير عمر الاحتلال.
الكاتب المصري قال في مقاله " محاولات حماس واضحة لفتح جبهة المقاومة في الضفة وأنها لو لم تكن مكبلة من السلطة والتزاماتها لكان يمكن أن تنصر غزة بشكل أفضل مما فعلت؛ إلا أن هذا لا يتعارض مع ضرورة الاعتراف بأن ظروف غزة تختلف اختلافًا بيّنًا عن ظروف الضفة من عدة نواح أهمها جغرافيّة غزة ومساحتها وكثافتها السكانيّة، إضافة إلى تجاور غزة مع مصر".
ولفت الى ان هناك عاملًا مهمًا جدًا لإظهار اختلاف الظروف بين الضفة وغزة يظهر في تفاوت الأطماع والأهداف الاستعماريّة الاستيطانيّة الصهيونيّة إزاء كل من المنطقتين, هذا العامل أدى إلى "الانسحاب" من غزة تحت وطأته أولًا وأساسًا، وثانيًا جرّاء المقاومة وما أدت إليه من تكاليف باهظة فاقت الفوائد التي جنتها (إسرائيل) من استمرار الاحتلال.
ويجب التأكيد على أن بسط السلطة سيطرتها على القطاع مطلب (إسرائيلي) مصري معلن تجدد بقوة في الحرب الاخيرة, اضافة الى عدة اطراف دولية وعربية اخرى وذلك املاً بان تتمكن السلطة من سحب البساط من تحت حماس التي تعاني من ضغط سياسي واقتصادي بفعل الحصار.
لكن ما اثبتته الحرب الاخيرة على غزة لجميع الاطراف حتى المعادية لها ان المقاومة لا يمكن تجاوزها وأنها بدأت تحقق انجازات واضحة على الارض وشعبية كاسحة خاصة في الضفة وهذا ما يفسر حملة الشائعات والاتهامات ضد حماس بمجرد انتهاء الحرب.