{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }الجمعة (8)
تواترت الأنباء عن غرق المئات من الفلسطينيين في المياه الإقليمية قبالة شواطئ الإسكندرية، وكانوا في طريقهم إلى الموانئ الإيطالية؛ بحثاً عن حياة آمنة مطمئنة في أكناف بعض الدول الأوروبية، وقد استماتت بعض وسائل الإعلام أن تنسبهم إلى المهاجرين من غزة، بعد معركة العصف المأكول؛ للوصول إلى أن غزة لا تُطعم أهلها من جوع، ولا تُؤَمِّنُهم من خوف، وكأنَّ القدر أذاقها لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون!!.
ولا شكَّ أن كثيراً من المُغْرَقين من فلسطين، وأن حفنة منهم من القطاع، وأن بعضهم قد تسلَّل لواذاً عبر الأنفاق، أو دخل مصر بذريعة العلاج وغيره وهو يُبَيِّتُ الجلاء، بينما كان أكثر المنسوبين إلى القطاع ممن فَرُّوا منه قبل سنين، حتى لا يؤاخَذوا بجريرة الفلتان والقتل الذي اقترفوه في غزة، فهم يقيمون في سيناء أو العريش، وقد استحالت حياتهم جحيماً بعد أن أحكم جيش الانقلاب قبضته الأمنية عليها، وبات كثير منهم مطاردين له، وفق سنة الله الذي يُوَلِّي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون.
إن آية المقال تخبرنا أن الذي يَفِرُّ من الموت يَفِرُّ إليه، وأن الحذر لا يُغني من القدر، وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء اجلها، وقد تعددت الأسباب والموت واحد، ولكنْ شتان بين من يقيم على أرض الرباط بنية الرباط، فيقضي نَحْبَه شهيداً في سبيل الله، أو يبلغ منازل الشهداء، ولو مات على فراشه، وبين من يموت غرقاً عمداً بفعل المتاجرين بأرواح البشر، وهو يحمل وصف المهاجر غير الشرعي، فيطويه النسيان، ويموت صغيراً يوم عاش صغير الهمة!!.
إنه إذا كان بضع عشراتٍ أو مئاتٍ قد خُدِعوا بإغراء بعض السماسرة أو الخونة، بأنهم ذاهبون إلى الأرض التي تقطر سمناً وعسلاً؛ فإنه في المقابل لو فُتح باب الهجرة إلى غزة لجاءها الملايين مسرعين؛ طمعاً في العزة والكرامة، وطلباً للحرية والشهادة؛ فإن معظم شعوب أمتنا يتمنون أن لو يستطيعون حيلة، أو يهتدون سبيلاً إلى غزة، ولو لِنَيْلِ شيءٍ من البركة التي أكرمنا الله بها في الانتصار على الصهاينة، ومَنْ وراءهم من الغرب والعرب، أو البَجَم والعَجَم، أو العلوج وعبدة الفروج، ليس في غزوة العصف المأكول وحدها، بل وفيما سبقها من حجارة السجيل، والفرقان، والقضاء على الفلتان من بعد كنس الاحتلال والاستيطان، ومن قبل ذلك ومن بعده التصدي لعشرات حالات التوغل الجزئي في أطراف القطاع، بما جعلها معركة مفتوحة بين الغزوات والسرايا التي جعلتنا أشبه ما يكون بالعهد المدني بعد الهجرة، إذْ إنَّ نبينا عليه الصلاة والسلام، والصحابة الأولين رضي الله عنهم أجمعين، قد خاضوا قريباً من مائة غزوة وسرية في أقلَّ من عشر سنين.
وبالعودة إلى آية الجمعة فقد جاءت توبيخاً لليهود الذين زعموا أنهم أولياء لله من دون الناس، وأن الدار الآخرة والجنة خالصة لهم من دون الناس، وقد بَاهَلَهم ربُّهم بأن دعاهم أن يتمنوا الموت؛ ليستريحوا من شقاء الدنيا إلى نعيم الفردوس؛ إن كانوا صادقين في أن الجنة حِكْرٌ عليهم، ولكنه سبحانه جزم بعدم تمنيهم الموت؛ لعلمهم أنهم ذاهبون إلى جهنم بما قدمت أيديهم من الإجرام، وجاء في هذه الآية، فَقَرَّعَهم بأن الموت آتٍ لا محالة، طال العمر أو قَصُر، ولسوف يُرَدُّون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئهم بما عملوا، أحصاه الله ونسوه، ويحاسبهم على الفَتِيل والنَّقِير والقِطْمِير، ومَنِ يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره.
غير أن الآية تخبرنا بأن الجبان الذي يحذر الموت، ويتحاشى أن يتعرض لأسبابه، يكون قد تعجَّله من حيث لا يدري، وقد ذكرتْ سورة البقرة نبأ الألوف من بني إسرائيل؛ حين خرجوا من ديارهم حَذَرَ الموت، فقال لهم الله موتوا، ثم أحياهم؛ حتى يؤكد أن الذي يفرُّ من الموت يفرُّ إليه، وليكون تحريضاً لنا على الثبات؛ فإن الذين كُتب عليهم القتل سيُقتلون، ولو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم؛ بأن يهيئ الله لهم ما يستفزهم منها؛ ليقتلوا في الميقات الزماني والمكاني الذي كُتب في اللوح المحفوظ، ولا تبديل لكلمات الله.
إنه إذا كان بعض الناس يعزم الارتحال من غزة فراراً من الحرب؛ فقد رأوا ما حلَّ بإخوانهم في البحر، ولن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل، وإذاً لا تُمَتَّعون إلا قليلاً، حتى لو أَفْلَتُّم من البحر، وبلغتهم مَأْرِبَكم في بعض المدن الغربية، فإنه لا كرامة لامرئٍ خارج وطنه، وإن الذين وصلوا إلى هناك بِشِقِّ الأنفس يعضون أصابع الندم، ولاتَ ساعة مندم.
أما الذين يذهبون بحثاً عن الزاد والقوت فليعلموا أن الخير إلى غزة قادم، ولن تلبثوا إلا قليلاً حتى تُبْتَلَوْا بالخير بعد الابتلاء بالضُّرِّ أو الشَّرِّ، وما دامت جذوة الجهاد والمقاومة متقدمة؛ فإن رزقنا تحت ظلال السيوف؛ دعماً من شعوب أمتنا، ومن أحرار العالم، ثم باغتنام ديار عدونا وأموالهم، وربما نقدر على ذلك في المستقبل القريب دون إيجاف خيلٍ أو رِكاب، إذا جاءهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب.
ثم مَنْ قال: إن الله غافل عما يعمل السيسي وأذناب الانقلاب؟!، أولا يعمل كثيراً مما يعمل عباس والذين يمدون الحبال للاحتلال؟!، إنها بضع سنين، وربما بضعة أشهر، ويكون هؤلاء جميعاً في خبر كان، ويومها سوف يحسدنا الذين هربوا إلى أوروبا، وهم يرون ثروة الأمة وقد انْتُزِعَتْ من العائلات الوارثة أو الأحزاب المغتصبة لها، وأصبح جميع المسلمين سواسيةً في استحقاقها، والجهاد بها في سبيل الله؛ حتى يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، ويظهر هذا الدين على الدين كله، ولو كره المشركون.
ولينصرنَّ الله من ينصره