قائد الطوفان قائد الطوفان

العطار.. شرطي مرور بنصف جسد!

الضابط عوض العطار (43 عاما)
الضابط عوض العطار (43 عاما)

الرسالة نت -أحمد الكومي

نصف جسد مسجى على سرير تحمله أربعة أرجل حديدية بركن غرفة من القماش غطّى سقفها سعف النخيل، كان كلُّ ما تبقى من الضابط عوض العطار (43 عاما) الذي بُترت قدماه في معركة "العصف المأكول" بعدما استهدفته طائرة حربية (إسرائيلية) بدون طيار إبان العدوان الأخير، وهو عائد من "مهمة جهادية" شمال قطاع غزة.

ونحن في طريقنا لمقابلته، رحنا نحضّر أنفسنا للقاء رجل توقعنا أن يكون محطَّم الوجدان على نحو لا يدانيه فيه أحد، لكننا غادرناه مدهوشين لفرط صبره وعزيمته.

على مدار ساعة كاملة جمعتنا به داخل أرضه الزراعية أمام بيته بحي السلاطين شمال غزة، كانت ابتسامة العطار حاضرة، تبدي نواجذه، من الأذن اليمنى إلى اليسرى. ما طينة الصبر التي عُجن بها هذا الرجل؟

لم يضبط العطار حياته على إيقاع العيش بنصف جسد بعد، وآثر أن يشتري ألمه بالتقسيط المريح. منذ لحظة استهدافه، التي وثقتها عدسات هواتف المارين، ومكوثه أول أيام الإصابة ستة أيام في غرفة العناية المكثفة وحتى عودته إلى زوجاته الثلاث وأبنائه العشرين بعد نحو شهر، أجرى ما يزيد عن عملية 20 جراحية.

الأغرب، أن العطار يقتله بقاؤه طريح الفراش، ويتحرى "على نار" الساعة التي تشفى فيه جراحه، كي يُأذن له بتركيب أطراف صناعية، والعودة إلى عمله "ضابط مرور". لكن لمَ العجلة يا أبو نائل وأنت لم تتقاض راتبك منذ شهور؟ أليس هو موعد الركون إلى الراحة؟

غربت الابتسامة على وقع السؤال، الذي بدا أنه نكأ ذاكرته وعاد به إلى أيام العمل في دوريات المرور بمدينة غزة، وعمله الجهادي الآخر. سكن الوجه وقال: "قديش متشوق أرجع لدوامي في الشرطة".

كان العطار يُمنّي النفس أيضا بمهمة جهادية يستذكر بها "شقيق روحه" الشهيد صقر ريحان، الذي كان يرافقه أثناء استهدافه، وقد أصابه الصاروخ بشكل مباشر في جزأه العلوي من جسده، فارتقى من فوره شهيدا، وظل صاحبنا ينزف، وقد وثقت عدسات المارة سجوده لله بنصفه العلوي فقط.

يصف العطار لحظة مشاهدته الفيديو، قائلا: "كثير حلو أن تشاهد نفسك ساجدا الله وأنت مقطّع.. أتمنى أن تكون كرامة من الله". حين تحدث بذلك لمعت في عينيه دموع الامتنان.

ينقم أبو نائل على السلطات المصرية لمنعه من السفر إلى تركيا لإكمال العلاج وتركيب الأطراف الصناعية هناك. ولم يجد إلا منظمة "أطباء بلا حدود" في غزة، التي شرَّعت أبوابها أمامه، له وللعشرات من أمثاله.

على الجانب الأيسر من السرير الذي يرقد عليه العطار، جلست زوجته الثالثة "نها" وتكوّرت بجانبه، كانت ترتدي لباس الصلاة. هي أوقات تحتاج فيها أن تكون أكثر قربا إلى الله؛ ليحفظ لها زوجها، فإن يذهب جزء من الجسد خير من أن يذهب الجسد وصاحبه، وإن كان لكليهما وقع على النفس مرير.

روت لنا "نها" واقعة حدثت لزوجها العطار، تعكس مدى التصاقه بفريضة الجهاد، وذلك فور خروجه مباشرة من غرفة العمليات، حين جاءها الطبيب المشرف ليبادرها سائلا: "يا أختي شو زوجك هادا؟ حتى وهو غائب عن الوعي، لا يتحدث إلا عن صاروخ وقسام ومهمة جهادية".

أشرقت الابتسامة مجددا على وجه العطار وهو يستمع لهذه الواقعة، ثم أومأ برأسه موافقا حديث زوجته: "كان قلبي مع الشباب".

لن يقف العطار عند منتصف الطريق، ولن تبرد همته حتى يكمل النصف الثاني. فائض العزيمة لديه يؤكد ذلك، فالذي يتحدى هو الذي يعيش.

البث المباشر