يدان تتأرجحان في السماء، وتمتمات شفاهٍ تلوك الحديث فيأبى الخروج، وإيماءات الوجهِ تتغيّر مع كل حركةٍ يسعى لإيصالها صالح أبو عمرة -18 عامًا-. وقليلٌ ممن يعرف لغة "الصم" ليرسم بذلك ابتسامةً على وجوههم، ويعطيهم أملًا أنّهم ليسوا بمعزلٍ عن محيطهم.
العجيب بأمرِ هذا الشاب-صالح-، أنّه يحترف صناعة الآلات الثقيلة، بحجمٍ مصغّر، دونما أن يتعلّم الهندسة، أو الميكانيكا.
بحركات يديه التي تترجمها أمّه وردة، يقول "أحب أن أصنع أي شيء، وأنظر للصناعات الثقيلة أمامي، وأجرّب مرارًا وتكرارًا، حتى تنجح محاولاتي ولو بنسبة بسيطة".
كثيرةٌ هي المحاولات التي باءتْ بالفشل بادئ الأمر، لكنّه مقتنعٌ بمقولة تحكي أن "سقوطك ليس فشلًا.. ولكن الفشل أن تبقى حيث سقطت".
يُصِرُ صالح على أن يكونَ شيئًا في المجتمع، فينعزل لساعاتٍ طويلة وسط مجموعة من الألواح الحديدية، وآلة اللِحام التي يستعيرها من ورشة والده محمد، ويخرج في نهاية يومه بمجسمٍ مصغّر لآلة ثقيلة.
"يناديني في كل مرة لأرى جديده من التصميمات على دفتر رسم، ومن بعدها بساعات يعيد نداءه لأرى ما هو على دفتره أصبح حقيقة". ويتابع والده" يستعين بتشغيل آلاته بمواتير غسالاتٍ قد تعطّلت، يصلّحها، ويسخرها لاختراعاته".
في ركنٍ صغير من ورشة الحدادة الخاصة بوالده، يخصص صالح لنفسه مكانًا، يعتبره ملاذًا لتجاربه، فصنّع "جرافة، وكبّاش، وخلاّط أسمنت، ومشافاة، وحاملة آلات ثقيلة".
جميعها تُحاكي آلاتٍ من وزنٍ ثقيل، وإن تعذر عليه شيء، يذهب إلى جهاز الحاسوب، ويبحث عن التصميم الداخلي للآلة، ويبدأ بتطويرها.
عين الأب تنظر إلى ابنه، ويستحضر موقفًا قديمًا يحدثنا عنه "ذات يوم وجدته داخل خلاط الأسمنت ينظر اليه بعدما تعثرت آلته ولم تكمل الدوران، فرجع اليها، وصارت تدور يمنةً ويسرى".
ابتسامة على وجه الأب تبدو أنّها تريد كشف شيئًا من مغامرات ابنه، يتابع "لم يفلح معه نظام الخلّاط بداية الأمر، حتى بدأ يضع له السكاكين الداخلية لتساعد في عملية خلط الأسمنت". أغمض رب الأسرة عينيه. ثم فتحهما من جديد لتبان نواجذه من الابتسامة وهو يقول" حرق 3 مواتير من البيت لينجح مشروع الخلاط في الموتور الرابع".
كلما شعر صالح بالملل، ذهب إلى آلة جديدة ليكمل عمله بها. تنقلاته تخلق منافسةً بين آلاته أيهما تكون الأولى بالإنجاز.
خلافه بالمدرسة
"وقت أن كان طفلًا في مدرسةٍ لتأهيل المعاقين في بلدته- دير البلح- وسط قطاع غزة، يشهد له أبناء سكناه بالحكمة والرصانة"، وفق أمّه.
كبُرَ صالح، وأصبح عمره ثلاثة عشر عامًا، وفي مدرسته مُدرِسة "ذات وجهٍ متجهّم"، لم ترأف بحالة طلبتها ذوو الإعاقة، فتكيل عليهم بالضرب، وكثيرًا ما يتجنبها الجميع.
يقف على باب صفه الدراسي، وإذ بتلك المُدرِسة تنهال عليه بالضرب المبرح، والسبب أنّه يقف خارج الفصل، وعند مراجعة ربة البيت للإدارة، كان ردهم "أنت جاي تعلمينا شغلنا". ما عزز بنفسية صالح أنّ الدراسة نصفها ضرب، فتركها.
لم يكن الأمر سلبيًا بمغادرته المدرسة –رغم إلحاح أهله عليه بالعدول عن قراره-، لكنّه عَمِل على تطوير ذاته، ليصبح ذو شأنٍ في المجتمع.
وبعد مرورِ خمسةِ سنواتٍ على الحادثة، يسعى صالح لإكمال تعليمه، حتى يطوّر من أداء اختراعاته، ويجعلها تنافس على أرض الواقع.
حُلمٌ يراود صالح أن يصبح مالكًا لمحلِ تصنيع يختص بالمعدات الثقيلة، وحُلمُ أهله ينصبّ بأن تكون له حاضنة؛ ليطوّر من ابداعاته داخل إطارها.
تنهي وردة –أمه- الحديث بقولها "قد يكون المعاق أكثر ذكاءً من الأسوياء، لكنّ الاهتمام بهم معدوم، وابداعاتهم مهمّشة". وتتساءل " أليس من الخسارة على الجميع أن يكون بغزة عقلية تسعى إلى فتح مصنع للمعدات الثقيلة".
(عدسة: محمود أبو حصيرة )