رام الله - لمراسلنا
بعينين دامعتين ويد مرتجفة مغرقةٍ بالتجاعيد ووجهٍ ساكن الملامح، تسلم أبو علي من قرية بيت سيرا غرب رام الله ورقةً لا تتجاوز الكتابة فيها حتى المنتصف وتكثر عليها الأختام والتواقيع.. حتى إذا قرأ بصعوبة ما تحتويه رفع رأسه تاركاً المجال لعينيه بالذهاب بعيداً إلى أرضه التي طالما تشربت عرقه وامتصت تعبه.
وتحمل هذه الورقة بين سطورها قراراً من محكمة الاحتلال بمصادرة 49 دونماً من قرى غرب رام الله بحجة إعادة فتح شارع رام الله- اللطرون الذي يصل عشرات القرى بالمدينة، لتتجلى الروح الغادرة لدى احتلالٍ تمرّس الكذب أعواماً طويلة، فيحاول إقناع الفلسطينيين بأنه سيعيد فتح الطريق خدمة لهم.
بداية الحكاية
وتبدأ قصة هذا الشارع منذ أعوام طويلة مضت حين كان يصل مناطق غرب رام الله بمدينة القدس المحتلة، ولكن الاحتلال آثر إغلاقه حين احتل المدينة المقدسة عام 1967 ليجعله ممراً فقط إلى رام الله، فدأب السكان على استعماله مستذكرين الأيام التي كان هذا الشارع يصلهم فيها بمسرى رسول الله.
وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى وتحت حجج الرعب الأمني أغلق جيش الاحتلال الشارع الرئيسي المغذي للقرى، وأذاق أهاليها عذاباً أثقل كاهلهم ونشر نفسه بين خلاياهم حين يعبرون الطرقات الوعرة المخصصة للدوابّ محملين بالبضائع الثقيلة.
وتتعدد أشكال العذاب هذه لتصل إلى السيدة ملاك عمرو من قرية بيت لقيا والتي كانت بحاجة إلى نقلها للمشفى لتضع مولودها، ولكن الطريق المغلق ضاعف آلامها واضطرها لسلوك طريق وعرة تزيد المسافة عشرات الكيلومترات وصولأً إلى مدينة رام الله، وتقول:" هذا الشارع المغلق جعلني أضع جنيني في الطريق إلى المشفى، ولم أجد أحداً إلى جانبي سوى والدتي وزوجي، وكانت الطريق الوعرة ألماً تضرب جسدي كلما مشينا قليلاً".
ولم يكن إغلاق الشارع إلا لتخصيصه لسيارات المغتصبين وآليات جنود الاحتلال دون مركبات فلسطينية تؤرقهم، فأقدم الصهاينة على تجهيزه وإضاءته وتعبيده من جديد لراحة المغتصبين، حتى إذا حاول أحد الفلسطينيين المرور منه فوجئ ببوابة ضخمة ومتاريس ترابية تمنع عنه حتى الهواء.
قنص واعتقال
وعندما يضيق الحال بالفلسطينيين عند سلوكهم طرقاً وعرة صعبة المشي مضاعفةَ المسافة، كان البعض منهم يحاول عبور هذا الشارع سيراً على الأقادم في محاولة لإقناع الاحتلال بأنهم لا يشكلون خطراً عليه وأنهم مجرد أشخاص يريدون المرور، ولكن رصاصات الاحتلال من سلاح قناص متمركز على برج عسكري يعلو الشارع كانت في أحيان كثيرة أقرب إلى أجساد الفلسطينيين موصلةً رسالة الاحتلال بكل وضوح.
أما الاعتقال فهو النوع الآخر من الرسائل التي يحاول الاحتلال إيصالها لأهالي القرى الغربية إذا ما حاولوا سلوك هذا الشارع مشياً على الأقدام، فتم اختطاف عشرات الشبان والفتية خلال مرورهم من الشارع ذاته وإلصاق تهم رشق سيارات المغتصبين بهم.
وتتنوع أشكال المعاناة التي أعقبت إغلاق هذا الشارع، فعندما أقدم الاحتلال على توسيعه وتعبيده التهم عشرات الدونمات من أراضي الفلسطينيين وصادرها تحت حجج مختلفة، ومن ثم أغلق كل الأراضي الزراعية المحيطة به وأعلنها عسكرية مغلقة لتكون أراض احتياطية توافقاً مع رعبه.
وبعد كل هذا أصدرت مؤسسات حقوقية تقارير تطالب الاحتلال بإعادة فتح الشارع للفلسطينيين وإيقاف معاناتهم بعد كل ما تعرضوا له من ظلم على يد جنود الاحتلال وبعض المغتصبين الذين كانوا يعتدون على أي فلسطيني يرونه في هذا المكان، ولكن آذانا صماء للاحتلال لم تلقِ بالاً لكل تلك الأصوات.
ذر الرماد
وبعد عشر سنوات من الألم الممزوج بشعور الظلم المقيت، وتراكض الفلسطينيين في أروقة محاكم الاحتلال، أصدرت إحداها قراراً يلزم الجيش بإعادة فتحه، وبالطبع لم يكترث لكل تلك المطالب مهتما فقط بمصلحة المغتصبين وسلامة جنوده.
ولكن إصرار الفلسطينيين دفع الجيش إلى الإقرار بوجوب فتح الشارع، وهنا بدأ لعبته القذرة بخداع أصحاب الأرض والمراوغة من أجل ابتلاع المزيد من الأراضي تحت قناع خدمتهم، حتى إذا قرر إعادة فتح الشارع سلم أهالي القرى قرارات بمصادرة عشرات الدونمات من أراضيهم كما أكد رئيس المجلس القروي لبيت سيرا علي حسين لـ"الرسالة".
"فوجئنا بتسليمنا قرارا بمصادرة 14 دونماً من أراضي قرية بيت سيرا وتسليم قرارات أخرى بمصادرة المزيد من الأراضي في القرى المجاورة، وهذا الأمر مجرد لعبة من الاحتلال كي يصادر الأراضي دون أن يقدم لنا شيئاً".
وما زال جيش الاحتلال حتى الآن يتلكأ في تنفيذ قرار المحاكم التي لجأ إليها الفلسطينيون، وربما لن يطبقها أبداً حسب تخوفات أهالي القرى الغربية، إضافة إلى حسابات أخرى يضعونها سلفاً في مخيلتهم.
فيقول حسين:" نحن لا نقتنع بأن الاحتلال يري فتح الشارع لراحتنا، وإنما من الممكن إذا فتحه في يوم ما أن يصبح شارع الموت بالنسبة لنا أمام رصاص الجنود، أو أن يكون مكاناً دائماً لاعتقال أبنائنا، أو أن يغلق دائماً بحاجز عسكري موضوع هناك، وكل شيء وارد بالنسبة لنا".
وبهذا يبقى أحد فصول حياة الفلسطينيين مع احتلالٍ رابض على ممتلكاتهم مفتوحاً أمام السنوات كي تتم معرفة ما الذي يخفيه لهم قدرهم، وهم من اعتادوا من قاتلهم الغدر والخداع ووعود بالمزيد من الحرمان.