أسدل الشاب أيمن نصر ستار إحدى غرف قسم مرضى الكلى بمجمع الشفاء الطبي بغزة وسمح لعين الشمس بالدخول، ربما لتقتل الميكروبات التي تكاثرت بفعل القمامة المتناثرة في المكان. أخوه الأكبر صهيب تمكن من وضع والده بمساعدة ممرض على سرير المرض، لكي يتنسى لهما غسل كليته.
ارتفع صوت جهاز غسيل الكلى الطبي الذي بدأ بتنظيف دم الحاج المريض، تزامنًا مع مباشرة ابنيه صهيب وأيمن والممرض، بتنظيف أرضية الغرفة من قطرات الماء المتجلطة، وإفراغ أسلال المهملات التي طفت بالقاذورات.
مشافي غزة الحكومية تحولت إلى مكاره صحية نتيجة غياب النظافة والتعقيم الجيد للمكان بعد إضراب شركات النظافة العاملة فيها لعدم دفع حكومة التوافق رواتب موظفيها، فضلا عن عدم اتلاف الأدوات الطبية ومخلفات العمليات الجراحية.
الروائح الكريهة التي استوطنت تلك الغرفة تسببت بالأذى الشابين قبل والدهم. انتهى المريض من تنظيف دمه، وبسرعة حمله أبناؤه خارج المشفى وعادوا به إلى المنزل حفاظًا على صحته التي هددتها القذارة قبل المرض.
أيمن الذي بدا غاضبًا طوال الحديث معنا يقول: "لو بقينا ساعة أخرى في الغرفة لانتهى أجل والدي".
أكملنا الحديث مع والده الذي بدا عليه الغضب من قذارة المستشفى، يقول: " لم أتحمل الرائحة، ما كان في هواء نقي في المكان(..)، تكون آخرتي بين ولادي، بدل الموت في حاوية قمامة".
إرهاق الحاج الشديد منعنا من مواصلة حوارنا معه، ليأخذه ابناه في تلك السيارة الصفراء متوجهين إلى منزلهم الواقع غرب المدينة.
عمال النظافة البالغ عددهم 700 عامل في مستشفيات غزة، ويتقاضى الواحد منهم 700 شيكل شهريا، توقفوا عن العمل منذ أسبوع من إعداد هذا التقرير لتغرق مشافي القطاع بالقمامة، علماً أنّ العمال يتبعون لتسع شركات خاصة متعاقدة مع مشافي الحكومة.
في الغرفة المجاورة تكاد قصة الحاجة أم محمود عسلية تكون أقصر حكاية مرضى غزة، تمددت على سرير المرض بتذمر، وكالعادة تأتي وحيدة دون مرافق.
وتعاني العجوز من فشل كلوي وتضطر للغسل 3 مرات أسبوعيًا، تتحمل رائحة القاذورات والدماء ومخلفات المرضى والطواقم الطبية في سبيل بقائها على قيد الحياة.
استجمعت قواها ثم قالت، "القمامة في كل مكان والرائحة مؤذية، وما في وقود للكهرباء حتى تشغل الأجهزة الي نعتمد عليها لتنقية دمنا".
صمتت برهة ثم أعادت رأسها على ذلك السرير قائلة: "والله منا عارفة يما من وين الواحد يتوجع، بنتعالج وسط قمامة، وقطعة الكهرباء" ثم أدارت وجهها إلى الجدار لتخفي دمعتها.
وفي العديد من المرات وبسبب انقطاع التيار الكهربائي تقع أم محمود مغشياً عليها لتأخرها عن جلسة غسيل الكلى.
وتعاني مستشفيات قطاع غزة من نقص حاد في كميات الوقود، الأمر الذي يشكل كارثة إنسانية، في ظل بلوغ نسبة العجز 50%، خاصة مع وجود أزمة الكهرباء، والحاجة الماسة لتشغيل المولدات.
وزارة الصحة على لسان المتحدث باسمها الدكتور أشرف القدرة حذرت من تدهور الوضع الصحي لعشرات المرضى الذين يعانون من الفشل الكلوي جراء غرق المشافي بالقمامة بجانب بعض الأزمات العالقة كنقص الأدوية الطبية والوقود والكهرباء.
وقال القدرة: "هذه الأزمة وبجانب تلك الأزمات تضع قرابة (404) مرضى بالفشل الكلوي على شفى الموت".
في هذه الأثناء قال الدكتور جمال الهمص المدير الطبي بمجمع ناصر، " هناك خطر شديد على مرضى الفشل الكلوي، فقد يتسبب الوضع الحالي في تلوث دمائهم أو انتقال العدوى للمرضى الموجودين داخل أقسام العناية المركزة أو الولادة والحضانة".
وأكد الهمص أن أزمة النظافة بجانب نقص الوقود وانقطاع الكهرباء لها أثر كبير على الخدمات الصحية وخاصة في الأماكن الحساسة مثل وحدة الكلى والعناية المكثفة.