كثيرا ما كان رائد العطل يسأل نفسه: لماذا أبقى في غزة؟، وهو الشاب الحاصل على دكتوراه في تخصص الديكور بمعدل امتياز، وأضحى متعطلا عن العمل بعدما دمّر الاحتلال الإسرائيلي مكتبه الهندسي الاستشاري ومتجره أثناء العدوان، وكان يعتاش منهما، إلى جانب إنهاء عمله في إحدى الجامعات الفلسطينية.
وصل العطل إلى درجة الإحساس بأن مستقبله مقفل، وأن المفتاح في مكان غير بلده، فعقد العزم على البحث عن ضالته بالهجرة خارجا، ووجد في ذلك هروبا من الواقع المأزوم الذي يشهده قطاع غزة بعد العدوان الأخير، وما أعقبه من رفع معدلات البطالة والفقر، وانعدام فرص العمل، فضلا عن ضعف القدرة على استيعاب أصحاب الكفاءات، وغياب الرابط بين أنظمة التعليم ومشاريع التنمية.
"مكتب وكالة هجرة في كندا: استقبلنا "عشرات طلبات الهجرة" من غزة
"
تلك الأسباب مجتمعة، لم تجعل غزة أحسن حالا من الدول العربية قاطبة، التي تشهد هجرة عقول منذ أن انتقلت شعلة الحضارة إلى الغرب، الأمر الذي استرعى انتباه "الرسالة نت" وحرضها على البحث عن أجوبة لأسئلة كثيرة صاغتها في سياق التحقيق، في محاولة لإثبات تسرّب الكفاءات على وجه التحديد من غزة وحجمه، خاصة بعد العدوان، وإن كان الأمر لا يحتاج إثبات وجود هجرة من الأساس، خصوصا بعد كوارث قوارب البحر التي كانت تقل مهاجرين فلسطينيين من غزة.
وكلاء الهجرة
طريقنا إلى ذلك لم تكن ممهدة، ذلك أن مصادر أمنية رسمية وموثوقة أبلغتنا عدم وجود إحصائية رسمية لحملة الشهادات العليا، الذين خرجوا من قطاع غزة أثناء العدوان وبعده، لسبب أن معبر رفح البري مع مصر كان مفتوحا منذ ثالث يوم للعدوان (8 يوليو/تموز) وحتى الرابع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر، أي قبل يوم من حادث سيناء الذي راح ضحيته 31 جنديا مصريا، وكانت شراسة المعركة آنذاك تصرف الانتباه عن أزمات كانت تعد هامشية.
ثم تبين لـ "الرسالة نت" أنه ليس من مهام إدارة المعبر تصنيف المسافرين، غير فرزهم إلى فئتي الطلبة وأصحاب الإقامات، وأنه من الصعوبة عليها حصر حملة الشهادات العليا من كشوفات المسافرين في تلك الفترة، ومعرفة إن كانوا مهاجرين أم لا، عندما نعلم أن حركة المعبر في اليوم الواحد كانت بمعدل 200-250 مسافرا كحد أدنى، كما أخبرتنا المصادر.
"الأسباب الرئيسية للهجرة تتركز في ضعف سوق العمل والمؤسسات على استيعاب الكفاءات
"
ولم يكن أمام معد التحقيق لإثبات الفرضية، سوى أن يسلك القنوات التي يتبعها المهاجرون في غزة حتى الاغتراب، فاهتدى إلى مكتب محاماة في كندا، يعمل وكيل هجرة في الدولة الأجنبية، بعدما أظهرت أرقام مأخوذة من دراسات كانت قد أجرتها جامعة الدول العربية ومنظمة اليونسكو، أن مجموع الكفاءات العربية يهاجرون متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحدة، وإلى كندا على وجه الخصوص.
وأظهرت الأرقام أيضا أن ما يزيد عن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلادهم.
وارتأى معد التحقيق أن يطرق باب مكتب المحاماة مرتديا ثوب شاب مُحبط ومتعطل عن العمل يعتزم الهجرة من غزة، بعدما تبادر إليه من أشخاص لهم تجربة، أن الأمر كله يتم بسرية عالية جدا وبعيدا عن الإعلام؛ بسبب أن ذلك يتعارض مع مصالحهم.
استغرق التواصل أسبوعا كاملا حتى جاء الرد من "المحامية عبير" التي تعمل في المكتب، وطلبت في بداية الأمر إرسال السيرة الذاتية من أجل معرفة الشهادة العلمية والإمكانيات، بعدما شرحت أن دولة كندا لا تستقبل إلا ذوي الكفاءات العليا ضمن برنامج لديها اسمه "Federal High skilled worker".
"إحدى أكبر الجامعات في غزة أنهت عقود قرابة الـ 150 أكاديميا من حملة الدكتوراه
"
وبعيدا عن تفاصيل كثيرة أوردتها المحامية، ذكرت أنهم يتقاضون مبلغ 4 آلاف دولار "لقاء أتعابهم"، كما قالت، وأن البرنامج يستغرق مدة من شهر إلى 6 شهور على أبعد تقدير، لكن ما يهم "الرسالة" كان معرفة عدد الطلبات التي تلقاها المكتب من قطاع غزة أثناء وبعد العدوان، وقد صرّحت المحامية أن كثرة الطلبات لديهم أشغلتهم عن حصرها، ولم تورد رقما قريبا، بيْد أنها قالت ما نصّه: "تلقينا طلبات من غزة بعد الحرب بالعشرات"، مستدركة: "ونحن وكالة هجرة واحدة من مئات في كندا".
سوق العمل
وبالقدر الذي يعتبر فيه ارتفاع معدلات البطالة سببا مباشرة لتسرّب الكفاءات بعد العدوان، إلا أن الأسباب الرئيسية لذلك تتركز في ضعف سوق العمل ومؤسسات المجتمع المدني على استيعابهم، على ضوء الضائقة المالية التي تعيشها، كنتيجة للحصار الخانق الذي يفرض على القطاع، إلى جانب عدم إبصار تحسن أو انتعاش في الأفق القريب، وليس أدل على ذلك ما أقدمت عليه إحدى أكبر الجامعات الفلسطينية في غزة بإنهاء عقود قرابة الـ 150 أكاديميا من حملة الدكتوراه، منهم 50 أكاديميا تحت العقد التجريبي وضمن الكادر الأساسي؛ كما علمت "الرسالة" من مصادر خاصة من داخل الجامعة نفسها.
والعطل واحد من أولئك الأكاديميين، رغم أنه يحمل شهادة دكتوراه في تخصص نادر بقطاع غزة (ديكور)، وحاصل على شهادة أفضل أكاديمي في إحدى جامعات دولة ماليزيا، عدا عن نيله درجة الماجستير بمعدل امتياز في (تكنولوجيا مواد البناء)، الذي قال إن غزة تحتاجه بشدة بعد الدمار الذي خلفه العدوان.
وذكر العطل أن إنهاء عقده في الجامعة كان أحد أهم الدوافع للتفكير في الهجرة، مشيرا إلى أن هذا القرار أثّر عليه كثيرا، إلى جانب الإحباط واليأس اللذان أصاباه نتيجة لذلك.
ونبّه إلى أن معظم زملائه الأكاديميين الذين أنهت الجامعة التي كان يعمل بها عقودهم، هاجروا إلى الخارج، محذرا من أن هجرة الكفاءات أضحت ظاهرة، وقال: "نحن اليوم نطرق جدار الخزان".
"تبلغ نسبة الحاصلين على شهادات جامعية من البكالوريوس فأعلى بغزة 13.4%
"
وينتظر العطل إنهاء إجراءات الهجرة وفتح معبر رفح البري من أجل المغادرة، دون أن يفصح عن وجهته، وأثناء محاولته إظهار حجم الأزمة وخطورتها، أشار إلى زملاء له في دول أجنبية كانوا قد هاجروا بطرق غير شرعية، وأرشدنا إلى وسيلة للتواصل مع بعضهم.
من بين كثيرين رفضوا أن "يكونوا تحت الضوء" كما عبّروا، قَبِل الشاب "وسام" الذي يحمل شهادة الدكتوراه في الهندسة البيئية، وكان قد هاجر بعد العدوان مباشرة إلى النرويج، الحديث مع "الرسالة"، دون أن يفصح عن الطريقة التي سلكها للهجرة، لكنه لم ينف أنها غير شرعية.
وأراد أن نتجاوز ذلك، إلى البحث في بواعث هجرته "وكثيرين من أمثاله"، كما قال، مشيرا إلى أن ضعف سوق العمل في غزة من قبْل العدوان وبعده، وسوء الأحوال الاقتصادية، والقنوط الذي أصابه على إثر ذلك، حرّضه على الاغتراب، وعلّق قائلا: "إن لم يبال المسؤولون بوضعنا ومستقبلنا، فكيف لنا أن نبقى مكتوفي الأيدي؟ لهم أن يصفونا بأي أوصاف يرونها، مستقبلنا غامض واعتقد أننا فعلنا الصواب".
في الأثناء، فإن رامي عبدو مدير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، أكد عدم وجود إحصائية رسمية لعدد الكفاءات المهاجرة، حين قال إن أحدا لا يملك أرقاما بأعداد الكفاءات المهاجرة لكنه شدد على أن "الشواهد على ذلك كثيرة، خاصة أن بيئة العمل لا تنسجم بشكل أساسي مع تخصصاتهم".
وقد أسقط العطل مثالا على حديث عبدو، حين روى أن أحد زملائه حاصل على دكتوراه في تخصص "تلوث الهواء" من الخارج، كان قد عاد من حيث أتى، بسبب تأخره في الحصول على فرصة عمل في قطاع غزة، وعدم استثمار خبرته بهذا المجال.
"عدد خريجي الجامعات في فلسطين بلغ العام الماضي 2013، أكثر من 200 ألف خريج
"
وعلّق عبدو قائلا: "جزء كبير من هذه الكفاءات درس في الخارج، وحين يعود إلى غزة ولا يجد فرصته، فإنه من السهل جدا أن يجدها حيث درس"، ويتعارض ذلك مع أحكام المادة الثانية من قانون العمل الفلسطيني رقم 7 لسنة 2000 التي تنص على أن العمل حق لكل مواطن قادر عليه، وتعمل السلطة الوطنية على توفيره على أساس تكافؤ الفرص ودون أي نوع من أنواع التمييز.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد خريجي الجامعات في فلسطين بلغ العام الماضي 2013، أكثر من 200 ألف خريج، ويضاف عليهم خريجو الكليات الجامعية، الذين بلغ عددهم أكثر من 12 ألف خريج، فيما بلغت نسبة الحاصلين على شهادات جامعية من البكالوريوس فأعلى في قطاع غزة 13.4%، وفق إحصائية حصلت عليها "الرسالة" من جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، فيما تنعدم فرص العمل.
الأوضاع السياسية
ولا يعتقد الدكتور محمود الجعبري، الوكيل المساعد لشؤون التعليم العالي في وزارة التربية والتعليم، أن البطالة وضعف سوق العمل أسباب تدعو للهجرة، لأنها برأيه "عوامل موجودة حتى في دول الخليج الغنية"، كما قال.
وأضاف في حديثه لـ "الرسالة نت": "نحن في ظل حصار وإغلاق، والتواصل مع رام الله شبه مقطوع، وهذا بحد ذاته يزيد الأزمة وحدة البطالة"، مشيرا إلى أن الجامعات في قطاع غزة "تأخذ قدرها"، وتعلن كل عام عن وظائف جديدة في تخصصات مختلفة، لكنه ذكر في الوقت نفسه أن هناك أعدادا كبيرة في غزة تطمح لتحصيل الشهادات العليا.
وقد أظهرت إحصائية حصلت عليها "الرسالة نت" من وزارة التعليم، أنا ما مجموعه 4363 طالبا في برنامج الدراسات العليا بمؤسسات التعليم العالي لعام 2013/2014، ما بين طالب جديد ومسجل وخريج، وهذا يظهر بجلاء العلاقة العكسية مع فرص العمل.
"باحثون عن الهجرة: ضعف سوق العمل في غزة حرضنا على الاغتراب
"
وحين سألت "الرسالة نت"، الجعبري عن مدى قدرة سوق العمل على استيعاب هذه الأعداد الكبيرة، أجاب: "ليس كل من يحصل على الماجستير أو الدكتوراه يجد وظيفة في نفس السنة، معروف عندنا أن عدد الجامعات محدود جدا".
وتابع: "سوق العمل للأسف لا يزال ضعيفا، ولا يتسع لحجم التخصصات الكبيرة والنادرة، لكن هذه التخصصات يمكن استيعابها في مجال العمل الحكومي"، مستدركا: "إلا أن الانقسام ترك تأثيرا كبيرا، فلا تملك أي وزارة من الوزارات في غزة تثبيت أي فرد مهما كانت درجته العلمية أو ندرة تخصصه، لأن كل أمور التوظيف في رام الله، بالتالي أي خريج يجد فرصة عمل في الخارج سيذهب لها بالتأكيد".
وضرب الوكيل المساعد لشؤون التعليم العالي مثالا جامعة الأقصى بغزة -التي تعتبر من أكبر الجامعات الفلسطينية-حين قال إن عدد طلابها بلغ 28 ألف طالب، لكنها منذ عام 2007 لم تعلن عن وظائف رسمية في الماجستير والدكتوراه؛ "نتيجة الوضع السياسي"، على حد تأكيده.
وشدد على أن الأوضاع السياسية ترخي بظلالها على المشهد برمته بالنسبة للتعليم العالي، وأن القطاع الخاص أيضا لا يستوعب في ظل الوضع الاقتصادي الحالي.
"الأورومتوسطي: لا أحد يملك أرقاما بأعدادهم لكن الشواهد على ذلك كثيرة
"
وإضافة إلى المبررات التي ساقها ثابت، فإن العطل يعتقد أن زيادة الهجرة أثناء العدوان وبعده سياسة مقصودة ومدبر لها من الاحتلال الإسرائيلي، "لكن للأسف، الوعي المؤسسي لدينا لا يلقي بالا لهذه القضية"، وفق قوله، محذرا من أن استمرار اللامبالاة سيقود إلى تأثيرات كارثية على الواقع الأكاديمي في قطاع غزة.
ولأن بداية أي إصلاح تكون بمعرفة مواطن الخلل، فإن الضرورة تفرض وعلى وجه السرعة وقف تسرّب الكفاءات، الذي يجعل غزة أشبه بـ "صنبور ماء معطوب"، وتحديد مصائرهم، من خلال البحث في الأسباب التي تدفع للهجرة وعلاجها، وفق رؤية وطنية متفق عليها، وتذليل الصعاب أمام المؤسسات التعليمية لاستيعاب هذه الكفاءات وتجنيدهم، مع الأخذ بعين الاعتبار تحسين أوضاع سوق العمل ومواءمة ما يحتاجه بالتخصصات العلمية، وما دون ذلك فإننا سنكون في غزة أمام آلاف المهاجرين بالنية، يمكن رصدهم مع فتح معبر رفح البري.