سجّل الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة ثلاث محطات أسطورية، في صلابة الصمود أمام آلة الحرب الصهيونية العاتية والغاشمة، في مسيرة هذا الشعب النضالية نحو الحرية. وفيما يسجل الشعب الفلسطيني صفحات مشرقة من الإقدام والجرأة، في مقاومة المحتل، بشكلٍ كان ليشرّف ويكون محل تفاخر أدنى شعوب العالم، فضلاً عن أشرفها، وكان يمكن أن يصبح مثالاً عالميّاً يحتذى، وتنسج حولها قصص البطولة والشرف.
عوضاً عن ذلك، رأينا كيف كانت القيادة الفلسطينية، المتفردة، متمثلة في الرئيس، محمود عباس، تشعر بالحرج من بطولة غزة، عوضاً عن الشعور بالعزة. وقد أصبح قطاع غزة قلعة للمقاومة، فيما يجهد عباس في تحويل الضفة الغربية إلى قلعة من نوع معاكس، قلعة للمفاوضات والتنسيق الأمني. وهو يستقوي بالنظام المصري الذي لم يخفِ عداءه المفضوح لغزة ومقاومتها.
وبلغت درجة علاقة عباس مع الأنظمة المصرية المتعاقبة درجة متقدمة، وقال، في أكثر من مقابلة مصورة، إنه صاحب اقتراح إقامة السور الحديدي تحت الأرض والقناة المائية فوقها لمنع الأنفاق على حدود غزة لخنقها. وفي مقابلة أخرى، اعترف عباس بأنه قدم بنفسه خرائط الأنفاق على حدود غزة، مطالباً مصر بهدمها، وبإقامة منطقة عازلة.
كان الرئيس، محمود عباس، يستطيع أن يرسم صورته بريشة غزة الصامدة، في أبهى صفحات التاريخ، لو أنه احتضن شعبه الذي صمد في معركة غير متكافئة، أكثر من خمسين يوماً، ولو أنه ساند مقاومته الباسلة التي رفعت رأس الشعب الفلسطيني والأمة العربية عاليّاً.
وافقت المقاومة، مخطئة، على تشكيل وفد فلسطيني مشترك لمفاوضة الاحتلال في القاهرة، وفرضت رفع الحصار بصمودها، وبات شرطاً مقبولاً دوليّاً، إلا أن نظام عبد الفتاح السيسي تنكر لذلك، ومارس كل ما من شأنه زيادة الحصار وخنق القطاع بطرق عدة، منها هدم الأنفاق وإقامة المنطقة العازلة، واستمرار غلق معبر رفح، وفتحه بالقطارة فقط، ومنها احتكار الوساطة مع "إسرائيل" والمفاوضات غير المباشرة، للحصول على استحقاقات وقف إطلاق النار، حيث عطل هذه المفاوضات بحجة ظروفه الأمنية، ومارس، من تحت الطاولة، تحريضاً للعدو الصهيوني على الصمود في وجه المقاومة الفلسطينية الباسلة.
في الوقت الذي تحارب فيه أميركا، وعلى أكثر من جبهة، قوى ذات أحلام إمبراطورية، بدءاً من داعش، مروراً بالصين، وليس انتهاء بروسيا، فإنها باتت في غنى عن فتح معارك جانبية في غزة، تحرج حلفاءها العرب أمام شعوبهم المتململة. والتقدير السائد أن كلاً من "إسرائيل" وأميركا، وبغض النظر عن أمنياتهما بكسر المقاومة في غزة، لكنهما، باتتا أقرب إلى الاقتناع بوجوب تخفيف وطأة الحصار قليلاً، ليس شفقة على الشعب الفلسطيني، ولكن، لأن ذلك قد يقلل من احتمالات الانفجار، مرة أخرى، في وجه "إسرائيل"، وإبعاد الحرج عن أميركا وحلفائها.
في هذه الأثناء، بات الرئيس عباس يعرف أكثر من غيره أن تكتيك التجويع لكسر حماس بعد حصارها، وجعلها تختار بين الطعام والاستسلام، أو بين الجوع والصمود، أو بين الجوع والركوع، قد فشلت في غزة فشلاً ذريعاً، وبات على الرئيس عباس، خصوصاً بعد فشله غزوته في مجلس الأمن، أن يتحصن في أحضان شعبه الصامد في غزة، وأن يعمل بجدية ومصداقية، هذه المرة، لإعادة الإعمار الموعود، وأن يكف الأيدي الخفية عن عرقلته.
ولكي ينجح الرئيس عباس في معاركه المفتوحة على أكثر من جبهة، ومنها المواجهة ضد الاستيطان والمفاوضات العقيمة، والتصدي لمحمد دحلان، المدعوم من دول عربية معلومة، ومواجهة الولايات المتحدة في المحافل الدولية، يجب أن يغلق عباس جبهة صراعه مع حماس في الضفة وغزة، ويستخدمها كأقوى أوراق القوة لديه، مع تثبيت أركان الوحدة الوطنية، وتفعيل منظمة التحرير، بعد إعادة تشكيلها.
يدرك سيادة الرئيس عباس الذي شارف على الثمانين عاماً، أن ريشة التاريخ سوف ترسم له صورة مروعة، إذ في عهده تحول الاستيطان في الضفة المحتلة إلى مدن مكتملة. وغابت معالم القدس، حتى كاد أهلها لا يعرفونها. في عهده، تشظينا وتفرقنا وتفسخنا، وبانت عورتنا حتى ازدرانا القريب قبل البعيد. وفي عهده، بلغ العار منا شأواً عظيماً، حيث التنسيق الأمني المقدس والخيانة الوطنية عمل بطولي. وفي عهده، خوّن الأمين وولي الرويبضات شؤون العامة، ونبذت المقاومة، وجرمت وحرمت عوضاً عن التكريم والتبجيل. وشنت على غزة ثلاث حروب. وفي عهده، خضع شطر شعبه لحصار فتاك، في محاولة فاشلة لمقايضة الخبز بالحرية والكرامة. وفي عهده، بات الإسمنت في غزة مادة ممنوعة. وانقسمت "فتح" إلى أرباع وأثمان وأخماس، حتى باتت في كل منطقة دكانة باسم فتح، وتتزين بكوفية أبو عمار، حيث كل يدعي وصلاً بليلى. وفي عهده، باتت الكهرباء في غزة أربع ساعات فقط، وإذا استمر الحال كما هو ستكون الأربع ساعات نعمة كبيرة.
نتوجه لسيادة الرئيس محمود عباس: كيف ترغب، يا سيادة الرئيس، أن تبدو صورتك في صفحات التاريخ؟ هل ترغب في أبهى صورة مشرفة في صدر كتب التاريخ، رئيساً لكل شعبه، يجمع شتاتهم ويوحد قوتهم، ويمضي بهم نحو الحرية بصفوف موحدة؟